Wednesday 6 November 2024

ابو المناعة

في البدء أحب أن أعرف التطعيم أو اللقاح 

إن التطعيم: 
هو تقوية المناعة بتعريف الجسم عن الميكروبات أو الفايروس قبل الإصابة به وبذلك يصنع الجسم أجسام مناعي حمايته عند الإصابة بنفس الميكروبات التي تم التلقيح بجرع صغيرة منها. للوقاية من الموت 

التطعيم:
إدوارد جينر وحالِبة اللبن ومرض الجُدَري
يسهم البنسلين والسلفانيلاميد وغيرهما من الأدوية المضادة للبكتيريا في إنقاذ حياة ملايين البشر كل يوم.

 ولكن ربما لعب الأثر الوقائي للتطعيم، وهو اكتشاف عرضي آخر، دورًا مهمًّا في إنقاذ حياة المزيد من البشر من خلال وقايتهم من الإصابة بالأمراض.

حتى القرن التاسع عشر، كان مرض الجُدَري من الأمراض الخطيرة التي تُودي بحياة أعداد كبيرة من البشر، ولم يكن يتساوى معه في درجة الخطورة ونسبة الوفيات إلا مرضَا الطاعون والملاريا. و لمكافحة مرض 
 باستخدام مادة الكينين والعقاقير المُصنَّعة المضادة للملاريا، و أن المبيدات الحشرية مفيدة أيضًا في القضاء على أنواع البعوض التي تحمل المرض. أما عن الطاعون، فقد أُحكِمت السيطرة عليه أخيرًا في الدول المتقدمة من خلال مراعاة الأصول الصحية والوقائية بعد أن اكتُشِف أن المرض ينتقل عن طريق البراغيث الموجودة على الجرذان.


في الشكل المرفق وهو شكل ٦-١ من المصدر : إدوارد جينر يرى ندبات بسبب جُدَري البقر على يد سيدة تعمل في مجال حلب الألبان.
يرجع الفضل إلى إدوارد جينر في «ما قدَّمه إلى العالم من لقاحٍ أنقذ ملايين البشر من موت محقق بسبب مرض الجُدَري، وملايين أخرى من تشوُّه فظيع في شكلهم»، وذلك وفقًا لما كتبه إي إل كومبير في مقاله المنشور عام ١٩٥٧ بعنوان «البحث والسرنديبية وجراحة العظام». أضاف كومبير:
لم يكتشف جينر لقاحَه نتيجةً لعمل طويل ومجهد في المعمل. ففي سن التاسعة عشرة، قالت له سيدة كانت تعمل سابقًا في حلب الألبان إنها لا يمكن أن تصاب بالجُدَري؛ لأنها أُصِيبت من قبلُ بجُدَري البقر، فتذكَّرَ جينر تلك المقولة عندما أدرَكَ لاحقًا بعد أن صار طبيبًا عدم جدوى محاوَلَة علاج مرض الجُدَري. بحث جينر الأمر ووجد أن السيدات اللاتي يعملن في حلب الألبان لا يُصَبن تقريبًا بمرض الجُدَري، حتى عندما يساعِدن في تمريض المصابين بالمرض. وواتته فكرةُ تطعيم المرضى بمادة مستخلصة من بثور جُدَري البقر حتى يقيهم من الإصابة بمرض الجُدَري الأكثر خطورةً. وكانت هذه سرنديبية حقيقية؛ ففكرة أن الإصابة بمرض جُدَري البقر تعطي مناعةً ضد الإصابة بالجُدَري واتته دون بذل جهد من جانبه. ولكن كل ما هنالك أنه كان لديه الإدراك السليم الذي مكَّنَه من إدراك قيمة تلك الفكرة والاستفادة منها.

وُلِد إدوارد جينر في بيركلي، جلوسترشير في عام ١٧٤٩، وكان ابنًا لكاهن إنجليزي مات بينما كان جينر في السادسة من عمره. تربَّى بمساعدة أخ أكبر له، وتلقَّى تعليمه المبكر في المدارس المحلية حيث أظهر اهتمامًا كبيرًا بالتاريخ الطبيعي، وبدأ دراسته للطب على يد دانيال لودلو، وهو جرَّاح من سادبيري، بالقرب من بريستول. وفي ذلك الوقت، ألهمته سيدة تعمل في حلب الألبان بفكرة وجود علاقة بين جُدَري البقر والجُدَري.

عندما بلغ الحادية والعشرين من عمره، انتقل إلى لندن ليتتلمذ على يد طبيب شهير يُدعى جون هانتر. عاش في منزل هانتر لمدة عامين، واستعان به السير جوزيف بانكس في تجهيز وتنظيم العينات الحيوانية التي كان بانكس قد جمعها في رحلة كابتن كوك البحرية الأولى في عام ١٧٧١. وعُرِضتْ عليه وظيفة اختصاصي تاريخ طبيعي في رحلة كوك الثانية، لكنه رفض ليتابع ممارسته للطب في بيركلي ولاحقًا في تشيلتنم. كان مهتمًّا بعلم الطيور والجيولوجيا والموسيقى وكتابة الشعر، ولكن بحلول عام ١٧٩٢ قرَّرَ أن يقصر اهتمامه بصفة أساسية على الطب، ومُنِح درجة الماجستير من جامعة سانت آندروز.

في تلك الأثناء، لا بد أن فكرة التطعيم كانت قد اختمرت في ذهنه؛ فبينما كان في لندن ذكر العلاقة بين جُدَري البقر والجُدَري لهانتر، لكنه لم يُبْدِ اهتمامًا كبيرًا بها. وفي عام ١٧٧٥، بدأ جينر دراسة اعتقاد أهل الريف في جلوسترشير عن جُدَري البقر، وبحلول عام ١٧٨٠ كان قد اكتشف وجود نوعين مختلفين من جُدَري البقر، ونوعًا واحدًا فقط من الجُدَري تتوافر الوقاية منه. واكتشف أيضًا أن الشكل الفعَّال من جُدَري البقر لم يكن يقي من الإصابة بالجُدَري إلا عندما يُنقَل إلى المريض في مرحلة معينة من الإصابة بالمرض.

ونظرًا لأنه لم تكن لديه حالات إصابة عديدة بجُدَري البقر في منطقته، لم تكن لديه فرصة كبيرة لاختبار نظرياته. فرسَمَ يدَ سيدة تعمل في حلب الألبان على يدها بثور (أو حويصلات أو ندوب) بسبب الإصابة بجُدَري البقر، وأخذها إلى لندن لعرضها على الأطباء هناك، ولكنهم لم يفهموا المغزى من أفكاره. لكن في مايو ١٧٩٦، حقن صبيًّا عمره ثمانية أعوام يُدعَى جيمز فيبس بمادة مستخلصة من بثور جُدَري البقر من يد سيدة تعمل في حلب اللبن. وفي شهر يوليو التالي، تم حقن الصبي بعناية بمادة خاصة بالجُدَري، وكما توقَّعَ جينر: لم يُصَبِ الصبي بالجُدَري.

إنَّ المرء ليتساءل متعجبًا كيف أقنع جينر الصبي ووالدَيْه بخوض تلك المخاطرة؟! ربما كان مرض الجُدَري متفشيًا في المنطقة في تلك الفترة. طُرح تفسيرٌ ممكن لذلك في مقال عن المناعة في موسوعة «إنسيكلوبيديا بريتانيكا» (طبعة ١٩٦٢، مجلد ١٢، صفحة ١١٦)، نصه كالتالي: «قبل اكتشاف لقاح الجُدَري في عام ١٧٩٦، كان الناس يخضعون للتطعيم ضد مرض الجُدَري عن طريق حقنهم بمادة تُؤخَذ من الطفح الجلدي لأشخاصٍ مصابين بالمرض. وكان بعض الأشخاص الذين يخضعون لهذا التطعيم يُصابون بالمرض، ولكن نظرًا للخوف الشديد من الإصابة بهذا المرض كان الكثير من الناس يفضِّلون الاحتمالَ الأقل للموت من جراء التطعيم عن الإصابة بالشكل الطبيعي المميت الأكثر احتمالًا.»

كانت النتيجة الإيجابية التي توصَّلَ إليها مع فيبس مشجِّعةً جدًّا لجينر، لكنه انتظر إلى حين إجراء تجربة ثانية قبل الإعلان عن اكتشافه. وتم هذا بعد عامين لأن مرض جُدَري البقر اختفى بصفة مؤقتة في جلوسترشير.

بعد نجاح التطعيم الثاني بمرض جُدَري البقر وما تبعه من الوقاية من الإصابة بمرض الجُدَري، أعَدَّ جينر نشرةً للإعلان عن اكتشافه، لكنه قرَّرَ الذهاب إلى لندن أولًا ثم تكرار التجربة هناك، لكن في لندن ولمدة ثلاثة أشهر لم يجد شخصًا يمكن أن يخضع للتجربة. ولكنه ما إن عاد إلى موطنه، حتى أجرى هنري كلاين — وهو أحد الأطباء البارزين في مستشفى سانت آندروز في لندن — عدة تجارب تطعيم ناجحة، وأخبر المجتمع الطبي هناك بمدى فاعلية الوقاية من مرض الجُدَري باستخدام لقاحٍ من جُدَري البقر.

مع ذلك، تأخَّرَ القبول العام لنجاح إجراء التطعيم الخاص بجينر؛ وذلك نظرًا لتحدِّيَيْن مختلفين؛ أولًا: النقد الشديد الذي تعرَّضَ له من جانب جرَّاح بارز يُدعَى جيه إنجينهاوس، وانحياز البعض ضده لفترة من الوقت. ثانيًا: سعى طبيب متهور يُدعَى جورج بيرسون إلى أن ينسب الفضل إلى نفسه في تطوير اللقاح دون معرفةٍ أو خبرة كافية، وقدَّمَ مادة تطعيم ملوَّثة تسبَّبَتْ في ظهور حالات طفح جلدي عديدة تُشبِه تلك الخاصة بمرض الجُدَري. أثبت جينر أن لقاح بيرسون كان ملوَّثًا، وانتشرت أخبار نجاح مادة لقاح جُدَري البقر النقية على مستوى العالم.

انهال التكريم في النهاية على جينر، وذلك كما يتضح من خلال القائمة التالية: تأسيس جمعية جينر الملكية في عام ١٨٠٣ للنشر الصحيح للقاح جينر في لندن، وحصول جينر على درجة الماجستير الفخرية من جامعة أكسفورد عام ١٨١٣، والاحتفال بالذكرى السنوية لأول عملية تطعيم ناجحة (التي أُجرِيت على الصبي جيمز فيبس) لعدة سنوات كعيد في ألمانيا، وحصول جينر على منحة من وزير الخزانة في إنجلترا قدرها ٢٠ ألف جنيه، ومَنْح الهند مبلغ ٧٣٨٣ جنيهًا له، وعمل تمثالٍ لجينر في جلوسترشير ولندن. كما قيل إن نابليون قد أمر بنفسه بإطلاق سراح أسيرين إنجليزيين عندما قيل له إن جينر توسَّطَ من أجل إطلاق سراحهما، وقال: «إننا لا يمكن أن نرفض أيَّ طلب لهذا الرجل.»

تعقيب
لم يستخدم جينر كلمة «تطعيم» vaccination ولكن «الحقن بالمادة المستخلصة من بثور جُدَري البقر» variolae vaccinae. ولمدة قرن تقريبًا، كان التطعيم باستخدام لقاح جينر المستخلص من بثور جُدَري البقر الإجراءَ الوحيد للتحصين ضد أي مرض.
في عام ١٨٨٠، طوَّرَ لوي باستير تطعيمًا للدواجن ضد شكل من أشكال مرض الكوليرا، الذي كان وباءً دمَّرَ ١٠٪ من الدواجن الفرنسية. فقد عزل نوعًا من البكتيريا من هذا المرض، وعن طريق زرع شكل مُوهَّن منها وتطعيم دواجن المزرعة به، حصَّنَها ضد الهجمات الشرسة للمرض. وكان هذا مُشابِهًا تمامًا، من حيث الفكرة، لتطعيم جينر المستخلص من جُدَري البقر؛ الذي يُوهَّن فيه فيروس الجُدَري في البقرة قبل نقله إلى السيدة التي تعمل في حلب اللبن في شكل جُدَري بقر.

تحوَّلَ باستير بعد ذلك إلى مرض الجَمْرة الخبيثة، وهو مرض يصيب الماشية والأغنام، وفي عام ١٨٨١ عزل باستير البكتيريا العصوية. وزرع تلك البكتيريا في درجة حرارة أعلى من درجة حرارة جسم الحيوان لإنتاج مادة تطعيم تُحدِث هجمة متوسطة من مرض الجَمْرَة الخبيثة في الحيوان وتُكسِب هذا الحيوان مناعةً لبعض الوقت ضد أية هجمة عنيفة من المرض. واقترح باستير إطلاق كلمة vaccination على الإجراء العام للتطعيم الوقائي (والمشتقة من كلمة variolae vaccinae التي استخدمها جينر) تقديرًا منه «للجهود والخدمات الجليلة التي قدَّمَها جينر الذي يُعَدُّ أحدَ أعظم العلماء الإنجليز.»
بعد ذلك بأربعة أعوام، طوَّرَ باستير لقاحًا للمرض الذي يُسمَّى داء الكلَب في الحيوانات و(أحيانًا) رُهابَ الماء في البشر. ونظرًا لعمل باستير الرائد الذي اعتمد على الاكتشاف السرنديبي الذي قام به جينر؛ أصبح التطعيم علمًا مفيدًا جدًّا، ومهَّد الطريق لإحداث ثورة في التعامل مع الأمراض المُعدية. ولا يوجد إسهام آخَر غير هذا — باستثناء اختراع المضادات الحيوية — له أثر عميق على صحة البشر. يرى دبليو آر كلارك في كتابه «الأسس التجريبية لعلم المناعة الحديث» (١٩٨٦) أن «أهم إنجازات عملية التطعيم» هو القضاء نهائيًّا على مرض الجُدَري. ففي النصف الأول من القرن العشرين، كانت حصيلة الوفيات سنويًّا من هذا المرض تتراوح ما بين مليونَيْ وثلاثة ملايين شخص، وقد سُجِّلت آخِر حالة إصابة بالجُدَري في الولايات المتحدة في عام ١٩٤٩، وكانت آخِر حالة إصابة في العالم في الصومال في عام ١٩٧٧.


اخوكم

             الدكتور 

     سيف علاء القيسي

تفصيل المناعة



المناعة المكتسبة 

Acquired (Adaptive) Immunity:


يستطيع جسمنا محاربة أغلب العوامل الممرضة، ويعود جزء كبير من الفضل في ذلك إلى المناعة التي نكتسبها بعد التعرّض للعامل الممرض. وهي مناعة نوعية أي أنّها تختلف وفقاً لنوع العامل الممرض ومتخصصة تجاه أنواع محددة من هذه العوامل. وتتكون من نوعين أساسيين هما:

أولاً - المناعة الخلطيّة
الأجسام المناعية البروتينية 

Humoral Immunity: 

وتسمّى بمناعة الخلايا البائيّة، ويطوّر الجسم فيها أجساماً مضادّة تدور ضمن بلازما الدم تسمّى الغلوبيولينات المناعيّة Immunoglobulins .

ثانياً - المناعة الخلويّة

Cell Mediated Immunity: 

وتسمّى بمناعة الخلايا التائيّة، وتعتمد على مهاجمة الخلايا التائيّة للعوامل الممرضة.

مولّدات الضدّ

Antigens :

لا تُتولد المناعة المكتسبة إلّا بعد التعرّض لمولدات الضد، والتي هي عبارة عن موادّ موجودة في العامل الممرض تحرض الاستجابة المناعيّة. ولا يتفاعل الجهاز المناعي مع مولّد الضدّ بكامله، بل على مواقع محدّدة منه تُدعى الحواتم Epitopes وتتكون من 4 أو 5 أحماض أمينيّة أو من سكَّريات متعددة تحَدد نوعية مولّد الضد.
وتمتلك الأجسام المضادّة Antibodies أربع سلاسل ببتيديّة Polypeptide سلسلتان طويلتان وسلسلتان قصيرتان تملك مواقع متحركة ومواقع ثابتة. وترتبط بالحواتم من خلال المواقع المتحركة.

أولاً - المناعة الخلطيّة:
- الخلايا البائيّة:
ترتبط الخلايا البائيّة بمولّد الضد وتتحول إلى خلايا بلازمية تُطلق أجساماً مضادّة ترتبط بنوع معين من مولدات الضد،
وتدخل الدم وتسمى الغلوبيولينات المناعيّة.
- أنواع الغلوبيولينات المناعيّة:
IgM تتكون من 5 وحدات أساسيّة، تشكل حوالي 10% من غلوبيولينات الدم. وهي الأهم في الاستجابة الأوّليّة. لا تستطيع عبور المشيمة بسبب حجمها الكبير لذا يعد تواجدها في دم حديثي الولادة علامة على وجود عدوى داخل الرحم. 
وظيفتها الالتصاق 
Agglutination وإتمام التفعيل.
IgG تتكوّن من وحدة أساسيّة واحدة، وهي الأكثر وفرة في الدم والسائل خارج الخلوي. وهي الوحيدة القادرة على عبور المشيمة ممّا يوفّر مناعة لحديثي الولادة خلال الأشهر الأولى من حياتهم. تُنتج بكميات كبيرة عندما يتعرض الجسم لنفس مولد الضد مرة أخرى.
IgE تتواجد بكمّيات ضئيلة في مصل الدم وتتحد بمستقبلات على سطح الخلايا البدينة Mast Cells والأساسية (نوع من الكريات البيض) وتلعب دوراً مهمّاً في تفاعل الحساسيّة.
IgA ولها نوعان: يتواجد الأوّل في الدّم ويشكّل حوال 10-20% من الغلوبيولينات في الدم. ويتم إنتاج الثاني في بلازما الغشاء المخاطي ويوجد في الإفرازات المخاطيّة للجهاز الهضمي والتنفسي والبولي التناسلي، كما يوجد في لبأ الأم والدمع. تقوم بتوفير مناعة موضعية على سطح الأغشية المخاطيّة.
IgD يوجد على سطح الكثير من الخلايا البائية، نسبته أقل من 1% في الدم. يعمل كمستقبل لمولدات الضد (BCR).

- الاستجابة الأوليّة والثانويّة للأجسام المضادّة:
تحدث الاستجابة الأوّليّة عند تقديم مولد الضدّ لأوّل مرّة، حيث يبدأ إنتاج الأجسام المضادّة خلال 7-10 أيام، وهو الوقت اللازم لتفعيل وتكاثر الخلايا البائيّة وتمايزها إلى خلايا بلازما قادرة على إفراز الأجسام المضادّة. بينما تحدث الاستجابة الثانويّة عند التعرّض اللاحق لمولّد الضد نفسه. حيث تكون خلايا الذاكرة التي تمَّ توليدها عند التعرّض الأوّل فعّالة فيمكن توليد الجسم المضاد خلال فترة قصيرة، ويكون مستواه أعلى بعشر مرّات من مستواه في الاستجابة الأوّليّة، ويستمر بمستوياتٍ عالية متناقصاً ببطء على مدى أشهر. وترتفع الاستجابة لمستويات أعلى بعد التعرّض لمولد الضدّ لأكثر من مرّة، وهذا هو سبب إعطاء أكثر اللقاحات على جرعاتٍ متعددة.

- وظائف الأجسام المضادّة:
- التحييد Neutralization: تثبط الأجسام المضادّة قدرة العامل الممرض على العدوى، أو سمّية جزيء سام وذلك عبر الارتباط بها، وبالتّالي منعها من الارتباط بالخلايا المستهدفة.
- الالتصاق Agglutination: ترتبط الأجسام المضادّة بمولد ضد معيّن، مما يؤدّي إلى التصاق مولدات الضد فيمنع انتشارها ويحفّز إزالتها بآليّات أخرى كالبلعمة مثلا.
- تعزيز البلعمة Opsonization الطهاية: تمتلك البالعات مستقبلات تستطيع الارتباط ببروتين الجسم المضاد الذي يغطّي العامل الممرض. هذا يحفّز البلعمة والقتل الخلوي للجسم المضاد بواسطة البالعات.
- تفعيل المتتمة Complement system: قد تفعّل الأجسام المضادة المرتبطة بالعامل الممرض، وحين ارتباطها بأول عامل من عوامل المتممة تتفعل سلسلة المتممة وتسبب تحلل الخلية بالآلية نفسها (عبر تشكيل فجوة في الغشاء).
-تعزيز القاتلات الطبيعيّةNatural Killers : تمتلك القاتلات الطبيعيّة مستقبلات للأجسام المضادّة، والتي ترتبط بجسم مضاد مرتبط بمولد ضد على الخليّة المستهدفة وتعزّز التصاق الخلايا غير الطبيعية بالخلايا القاتلة.

ثانياً - المناعة الخلويّة:
- الخلايا التائيّة:
يتمّ اختبار قدرة الخلايا التائيّة على مهاجمة مولّدات الضد دون أن تقوم بمهاجمة خلايا الجسم في الغدّة الصعتريّة (التيموس)، وتنتقل الخلايا الناجحة إلى العقد اللمفاويّة، بينما تقتل الخلايا الفاشلة بالموت المبرمج Apoptosis. وتدافع الخلايا التائية عن الجسم ضد البكتيريا والسرطان وتتفاعل مع الخلايا مباشرة.
لكي تبدأ الخلايا التائيّة عملها يجب أن تتفعّل، وذلك عن طريق خلية تقدّم مولّد ضد تعرفه عبر مستقبلاتها، ولا يمكن أن تتعرّف على مولّد الضد إلا عندما يكون محمولاً على معقد التوافق النسيجي MHC على سطح الخلية المقدمة لمولد الضد APC. يندمج مولّد الضد في الخليّة المصابة بمعقد التوافق النسيجي MHC فيظهر المعقد بكامله على سطح الخليّة، وترتبط الخليّة التائيّة بمولّد الضد عن طريق مستقبِلها.

- جزيئات سطح الخلايا التائية:
إضافة إلى دورها في التعرف على مولد الضد والتفاعل مع الخلايا الاخرى، فإنّ بعض هذه الجزيئات يعمل كمحددات Markers تساعد في تمييز الخلايا التائية وانقسامها وأهمّها:
-مستقبل الخليّة التائيّة (TCR) يتكون من سلسلتين ببتيديتين Polypeptide تسميان ألفا وبيتا، تشبهان جزيئات الجسم المضاد.
-جزيئات CD3 توجد بالقرب من TCR على كل أنواع الخلايا التائية، وتشارك في نقل الإشارات من الـTCR إلى داخل الخلية.
-جزيئات CD4 وCD8:
- خلايا تائيّة مساعدة (CD4) وظيفتها الأساسيّة مساعدة الخلايا الأخرى في الجهاز المناعي عبر إفراز السيتوكينات Cytokines .
- خلايا تائيّة قاتلة (CD8) وظيفتها الاساسية قتل الخلايا المصابة والورمية وغيرها ممّن تحمل مولد ضدٍّ تستطيع التعرّف عليه على سطحها.
كما ترتبط جزيئات CD4 و CD8 بالـ TCR أثناء التعرف على مولّد الضد، فهي بالتالي مستقبلات مساعدة. تعدُّ الإشارة الواردة عبر مستقبل الخليّة التائيّة بالإضافة إلى الجزيئات المذكورة الإشارة الأولى التي تفعل الخلايا التائية. وهناك أنواع كثيرة من الجزيئات على سطح الخلايا التائية لا متسع لذكرها جميعها.

- أنواع الخلايا التائيّة:
- تائية مساعدة (Th) تنظّم الاستجابة المناعيّة، وتفرز السيتوكينات التي تعزز تفعيل البالعات والخلايا القاتلة والكابحة.
- تائية قاتلة (Tc) تستجيب فوراً للمناعة الخلوية وتقتل الخلايا الغريبة والورمية.
- تائيّة كابحة Suppressor: تثبّط عمل الخلايا البائيّة والتائيّة القاتلة والمساعدة بعد قيامها بعملها، وتقوم بتنظيم نسبة الأجسام المضادّة في الدّم.

- الخلايا المقدّمة لمولّد الضد APC:
وهي خلايا قادرة على تقديم مولّد الضد للخلايا التائيّة، وهي:
- الخلايا التغصنية Dendritic cells: وهي أهمّ الخلايا المقدّمة لمولّد الضد وأكثرها فاعليّة، وتسمّى بهذا الاسم لوجود نتوئات سيتوبلازمية فيها تسمّى تغصنات. تتواجد في جميع أنسجة الجسم تقريباً.
- الخلايا البلعميّة الضامّة Macrophages: وهي خلايا بالعة في الأساس وهي أساسية في المناعة المتأصّلة. وتساهم في المناعة المكتسبة عبر تقديم مولّدات الضد.
-الخلايا البائيّة B-Cells: وهي معروفة باستجابتها المناعيّة الخلطيّة ولكن بإمكانها أن تقوم بتقديم مولدات الضدّ أيضاً.

- معقّد التوافق النسيجي MHC:
يوجد نوعان من معقد التوافق النسيجي، وهما:
-النوع الأول MHC-1: عبارة عن بروتين سكري Glycoprotein يتواجد على كافّة الخلايا تعرفه الخلايا التائيّة القاتلة فقط. ويؤدي ارتباطها فيه إلى تدمير الخليّة عندما يغزوها جسم غريب.
-النوع الثاني MHC-2: وهو بروتين سكري تعرفه الخلايا التائيّة المساعدة فقط. يتواجد على سطح الخلايا البائية والتائيّة القاتلة والبالعات الضامّة. يساعد على تحفيز نشاط الجهاز المناعي عند مواجهته لمولّد الضد.

- آليّة عمل الخلايا التائيّة:
دور معقّد التوافق النسيجي:
بمجرد دخول العامل الغريب تبدأ الخليّة بتشكيل بروتينات جديدة له. تتجزّأ هذه البروتينات وترتبط بمعقّد التوافق النسيجي الأوّل MHC-1 ثم تُقدّم جزيئات المعقّد البروتينات) مولّدات الضد) إلى الخلايا التائيّة القاتلة فيرتبط مستقبلها بمولّد الضد ويعزّز البروتين CD8 ارتباطها بمولّد الضّد، وتقوم الخلايا التائيّة بقتل الخليّة المصابة.
تبتلع البالعات مولّد الضد وتنقسم البروتينات الخاصّة به، ترتبط تلك الأجزاء بمعقّد التوافق النسيجي الثاني MHC-2 والذي يرتبط بالخلايا التائيّة المساعدة، وكما يعزّز البروتين CD4 الارتباط، تفرز الخلايا التائيّة المساعدة سايتوكينات تحفّز وتنظّم الاستجابة المناعيّة.

دور السايتوكينات:
تفعّل السايتوكينات الاستجابة المناعية دون أن تتفاعل مباشرة مع مولد الضد. كما تعزز نمو الخلايا البائية وقابلية إفرازها للأجسام المضادّة. وتفرز مواد كيميائية تجذب الكريات البيض المعتدلة والبالعات الضامّة. من هذه السيتوكينات IL-2 الذي يعزز إنشاء الخلايا التائيّة المساعدة والقاتلة والبائية ويعزز تطوير خلايا البلازما ويفعّل الخلايا التائيّة القاتلة.

قتل الخلايا المصابة:
آلية عمل الخلايا التائيّة القاتلة: يدخل عامل ممرض الخليّة ويستولي عليها لتنتج بروتيناته، يقدّم الـ MHC-1 مولّد الضدّ على سطح الخليّة، فترتبط الخلايا التائيّة القاتلة بمولّد الضد. تتلقّى الخلايا التائيّة القاتلة إشارة من الخلايا التائيّة المساعدة عند تعرّفها على مولّد الضد عبر IL2، تطلق الخلايا القاتلة البيروفيرون الذي يخلق فتحات ترفع نفوذيّة جدار الخليّة مما يُدخل الماء والأملاح فيؤدّي إلى انفجارها وموتها. كما تقوم بإطلاق الفراغمنتين Fragmentin والذي يحفّز الموت المبرمج للخليّة.

تصنيف المناعة المكتسبة:
تصنّف المناعة المناعة المكتسبة إلى مناعة فاعلة ومناعة منفعلة، وكلاهما إمّا طبيعي أو مصطنع.
- المناعة المكتسبة الفاعلة: وترتبط فيها مولدات الضد بخلايا الجهاز المناعي وتؤدّي إلى تفعيل خاص للخلايا البائيّة والتائيّة. ويستغرق هذا النّوع من المناعة بعض الوقت ليتطوّر. ويدوم بعد زوال مولّدات الضد بسبب تطوّر الذاكرة المناعيّة. ويمكن الحصول عليها بطريقتين:
أ. المناعة الفاعلة الطبيعيّة: وتحدث بعد العدوى الطبيعيّة، وتحفّز بعض العوامل الممرضة مثل الحصبة ذاكرة طويلة الأمد، بينما لا تدوم كثيراً في إصاباتٍ مثل الإنفلونزا.
ب. المناعة الفاعلة المصطنعة: وتحدث عبر التقديم المدروس للمكروبات أو مكوناتها إلى مُضيف في عمليّة تسمّى بالتلقيح والغرض منها تقديم استجابة مناعيّة مناسبة تحمي المضيف في حال تعرّضه للعامل الممرض في المستقبل.

- المناعة المكتسبة المنفعلة: وتتضمّن تقديم أجسام مضادّة أو لمفاويّات جاهزة إلى الشخص. ولا يوجد دور فعّال للجهاز المناعي في تفعيل الاستجابة المناعيّة هذه. وتكون فوريّة ولكنّها مؤقّتة، تستمرّ باستمرار فعاليّة المواد المقدّمة. ويمكن الحصول عليها بطريقتين:
أ. المناعة المنفعلة الطبيعيّة: وهي بانتقال الأجسام المضادّة من الأمّ إلى الجنين عبر المشيمة، أو في لبأ الأم أثناء الرّضاعة. وهذا يحمي حديثي الولادة من أمراضٍ كثيرة خلال الأشهر الستّة الأولى من حياتهم.
ب. المناعة المنفعلة المصطنعة:
المناعة الخلطية: يمكن نقلها صناعيّاً عبر نقل الأجسام المضادّة .ومثال هذا نقل مصل مضادٍّ للسموم لمعالجة أو للوقاية من الأوبئة التي قد تسببها البكتيريا السامّة كالخنّاق Diphtheria والكُزاز.
المناعة الخلوية: يمكن نقلها عبر نقل اللمفاويّات. ويجب أن يتم هذا النقل بين أفرادٍ متوافقين جينيّاً لتجنّب تفاعلات الرفض.

المصادر:

GUYTON AND HALL، Textbook of Medical Physiology twelfth edition، volume1 Unit VI - Chapters 33،34.
Essential Medical Microbiology and Immunology، Volume 1 fifth edition By staff members of medical mircobiology department ، Faculty of medicine - Cairo University



فايروس الورم الحليمي الجنسي ،HPV

 

مُلخّص

تتسبب عدوى فيروس الوَرَم الحُلَيمِي البشري (HPV) عبارة عن عدوى فيروسية تسبب ظهور زوائد على الجلد أو الأغشية المخاطية (بثور). هناك ما يزيد عن 100 نوع من فيروس الوَرَم الحُلَيمِي البشري (HPV). بعض أنواع عدوى فيروس الورم الحليمي البشري (HPV) تسبب البثور، وبعضها يمكنه أن يسبب الإصابة بأنواع مختلفة من السرطان.



Sunday 16 June 2024

توقف الحج لاكثر مناسبة

أبطلوه لجهاد التتار وحرّموه لانعدام الأمن وعطله الصراع السياسي على الحرمين الشريفين.. تعرف على تاريخ توقف الحج

Laylat al-Qadr during global outbreak of the coronavirus disease (COVID-19), at the Grand Mosque in Mecca

"في سنة ثلاثين وأربعمئة (430هـ/1040م) تعطل الحج من الأقاليم بأسرها؛ فلم يحج أحد لا من مصر، ولا من الشام، ولا من العراق، ولا من خراسان"!!

يذكرنا بهذا النص -الذي أورده الإمام جلال الدين السيوطي (ت 911هـ/1505م) في كتابه ‘حسن المحاضرة‘- ما شهده موسمُ الحج في سنتيْ 1441-1442هـ/2020-2021م من قَصْر للمشاركة فيه على "أعداد محدودة جدًّا" من الحجاج، مخافة انتشار جائحة فيروس كورونا (كوفيد 19) بين جموعهم المحتشدة، رغم أن المسلمين ودّعوا -منذ أكثر من قرن- تلك الأزمنة التي كانت تتعطل فيها مواسم الحج والعمرة، فاطّردت إقامة مناسكهما بأمان واعتاد المسلمون -في مشارق الأرض ومغاربها- أن تتهيأ منهم أعداد غفيرة سنويا لأداء هذا الركن العظيم من أركان الإسلام.

وكما أن هذا الوباء الكوني الخطير (كوفيد 19) مثَّل للعالم بأجمعه سابقة مَرَضية للدراسة والفحص؛ فإن ما سبّبه من تعطُّل لأداء الحج على النحو الأكمل المعتاد أتاح هو أيضا فرصة مُثلى لدراسة تاريخ تعطُّل هذه الشعيرة -كليا أو جزئيا- في مختلف عصور التاريخ الإسلامي. إذْ يبدو من الاستقراء الواسع لهذا التاريخ أن أغلبية حالات هذا التعطُّل -الذي توقفت معه مرارا حركة الدوران حول الكعبة- كانت تتم لأسباب سياسية أو لظروف أمنية ترتبت عليها.

إعلان

وطبيعي أن تتأثر تلك الشعيرة العظيمة بالظروف السياسية العامة، فهي أكثر أركان الإسلام تماسا مع الأمن والسلامة وتأثيرهما على السفر والترحال المرتبطين بأدائها، ولذا فإن تاريخ تعطل مواسم الحج هو حقيقةً تاريخ المنازعات والثورات وإقلاب الدول وتداولها، وهو تاريخ الحروب الكبرى للغزاة مثل الحملات الصليبية والاجتياحات المغولية التي توقف بسببها الحج من بعض المناطق طوال عشر سنوات.

وهو كذلك تاريخ اللصوص وقطّاع الطرق الغادرين بأمن الحجيج وأشواقهم الإيمانية، وهو أيضا تاريخ أشد اللحظات ألما ودموية في تاريخ مكة المكرمة عندما اجترأ القرامطة على حرمة الكعبة والمشاعر المقدسة فقاموا بسرقة الحجر الأسود وذبحوا الآلاف من المسلمين، تلك الاستباحة الشعواء التي أكدت أن الجماعة المسلمة ومراكز سلطانها وصلت حينها إلى أشد حالاتها ضعفا وهوانا وتفككا.

ولذا اعتبر المؤرخون أيام تعطيل الحج والعمرة من أحداث المسلمين الكبرى التي يؤرخ بها لأحوال الأمة، وما كان يسود فيها من اضطراب واستقرار، كما اعتبر الفقهاء أن توقفهما أو تعطلهما من النوازل الكبرى التي تصيب المسلمين فتجرح كرامتهم الدينية وتمس صميم فكرة الوحدة والاجتماع في مجتمعاتهم.

إعلان

وقد تناول الفقهاء تلك النازلة بالدراسة؛ فرأى أصحاب المذهب الحنفي أن أمن الطريق من شروط وجوب الحج، كما اتخذ بعض علماء المناطق القاصية -كبلاد الأندلس والمغرب- موقفا متحفظا من السعي لأداء الحج بسبب وعورة الطريق ومخاوفها، وفقدان الكثير من الحجاج والمعتمرين في الصحاري والبحار، واعتبروا ذلك من لوازم الاستطاعة المفقودة والتي هي مناط وجوب الحج، وهو ما يعني في مذهبهم تعطيل الحج لمن لا يأمن على نفسه في الطريق إليه.

ومن الأسباب التاريخية اللافتة في تعطيل الحج والعمرة ما كان يقع من اشتباك متكرر بين الدوافع السياسية والنوازع النُّسُكية في تلك الشعيرة، وهو ما جسّده السعي إلى فرض الهيمنة السياسية على الأراضي المقدسة من غير ما دولة إقليمية، باعتبار ذلك مدخلا حيويا إلى حيازة المكانة الإقليمية وتوطيد الشرعية السياسية في نفوس المسلمين.

ولذا سعت الدولة الفاطمية -من خلال ارتكازها على قاعدة محور مصر والشام- إلى أن تبسط سيطرتها على مكة والمدينة، وكانت مهدت لذلك بتدخلها لدى القرامطة -لما كان بينهما من صلة مذهبية- لردّ الحجر الأسود إلى الكعبة. وبسبب الصراع على السيادة بين الفاطميين في القاهرة والعباسيين في بغداد زادت كثيرا -مع أسباب أخرى ظرفية- حالات منع الحج وتعطُّل مواسمه عبر القرون، وهي ظاهرة مؤسفة تسعى هذه المقالة إلى التوقف عندها راصدةً لأهم وقائعها وشارحة لأسبابها وكاشفة لسياقاتها وتداعياتها.

صور من التاريخ الإسلامي - المساجد 3

صراع العروش
لعل أول وأهم الأسباب التي أدت إلى تعطل شعيرة الحج -كليا أو جزئيا- هو وقوع الصراعات السياسية سواء بمنطقة الحجاز وفي قلبها مكة المكرمة أو بأقاليم العالم الإسلامي الأخرى، وما كان يصاحبها من اقتتال يمنع الحجاج من الوصول إلى منطقة مشاعر الحج.

وكان أول تلك الصراعات تاريخيا ما وقع بين الأمويين والزبيريين مطع سبعينيات القرن الأول الهجري؛ فبسبب هذا الصراع لم يستطع أهل مكة -بقيادة عبد الله بن الزبير (ت 73هـ/693م)- أن يحجوا عام 73هـ/693م، كما يقول الطبري (ت 310هـ/923م) في تاريخه: "وحَجَّ الحَجَّاج (الثقفي ت 95هـ/714م) بالناس في هذه السنة، وابن الزبير محصور.. [في] مكة..، ولم يحج ذلك العام ولا أصحابه لأنهم لم يقفوا بعرفة".

وحين ثار العلويون -في الحجاز والبصرة- بقيادة محمد بن عبد الله بن الحسن المعروف بـ"النفس الزكية" (ت 145هـ/763م) وأخيه إبراهيم (ت 145هـ/763م)؛ بلغت ثورتهما مصر والشام وسائر آفاق العالم الإسلامي، فما كان من والي مصر العباسي يزيد بن حاتم المهلبي الأَزْدي (ت 170هـ/786م) إلا أن "مَنع الناسَ من الحج في سنة خمس وأربعين ومئة، فلم يحجّ في تلك السنة أحد من مصر ولا من الشام؛ لما كان بالحجاز من الاضطراب من أمر بني الحسن" في ثورتهم على العباسيين؛ كما يذكر ابن تَغْرْي بَرْدي (ت 874هـ/1470م) في ‘النجوم الزاهرة‘.

ويمدُّنا ابن الجوزي (ت 597هـ/1200م) -في تاريخه ‘المنتظم‘- بسلسلة من وقائع انقطاع الحج من جهة العراق وما وراءه من مناطق خراسان وآسيا الوسطى، تواصلت لأعوام عدة بسبب تردي الأوضاع بالعراق مركز الخلافة العباسية وسلطناتها البويهية ثم السلجوقية.

ففي سنة 401هـ/1011م "لم يحج.. أحد من العراق" لأمرين: الأول هو اضطراب الأوضاع الأمنية المتردية جراء الخروج على العباسيين من والي الموصل قرواش بن مقلد العقيلي (ت 444هـ/1053م) ومبايعته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله (ت 411هـ/1021م)، وهو ما عبّر عنه عفيف الدين اليافعي (ت 768هـ/1367م) -في ‘مرآة الجنان‘- بقوله: "لم يحج ركب العراق لفساد الوقت".

والسبب الثاني وقوع فيضان كبير في نهر دجلة؛ حيث "تفجّرت البُثوق (= فتحات النهر) وغرقت القرى والحصون"؛ حسبما يذكره ابن الجوزي في ‘المنتظم‘، ويؤكده معاصره المؤرخ ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) -في كتابه ‘الكامل‘- بقوله: "زدات دجلة إحدى وعشرين ذراعًا، وغرق كثيرٌ من بغداد والعراق، وتفجّرت البُثوق، ولم يحج هذه السنة من العراق أحد".

واللافت أنه في 401هـ/1011م نفسه لم يستطع حُجَّاج مصر أداء فرائضهم بسبب الأوضاع الأمنية المتردية، والصراع الداخلي بين القوات الفاطمية وأمير فلسطين حسان بن الجراح (ت بعد 415هـ/1025م) الذي خلع طاعة الفاطميين، وبايع أشرافَ الحجاز الذين كانوا يراوحون في ولائهم السياسي بين العباسيين ببغداد والفاطميين بالقاهرة، "فلم يحج أحد من مصر في هذه السنة"؛ وفقا للمقريزي في ‘اتّعاظ الحنفا‘.

وفي عام 407هـ/1017م "لم يحج الناس.. من خراسان ولا العراق"، وكان ذلك -كما يبدو من كلام ابن الجوزي- بسبب صراع على العرش البويهي وقع "بين سلطان الدولة أبي شجاع (ت 415هـ/1025م) وأخيه [قوام الدولة] أبي الفوارس (ت 419هـ/1029م)".

كما كان الصراع السلجوقي/الغزنوي للسيطرة على مناطق وسط آسيا وإيران -فضلا عن الاضطرابات الداخلية بمصر والشام جراء نزاع الوزراء على الإدارة الفاطمية- سببًا في انقطاع الحج 430هـ/1039م أيضًا، ولذلك يقول ابن الجوزي إنه "لم يحج الناس في هذه السنة من خراسان والعراق ومصر والشام"، وهذه هي الأقطار تمثل الأغلبية الساحقة من الحجيج آنذاك.

خريطة_الدول_الإسلامية_في_العصرين_الأموي_والعباسي

لعبة متجددة
وحين تجدد نزاع أمراء البيت السلجوقي على العرش بعد وفاة السلطان ملكشاه سنة 485هـ/1093م؛ كان ذلك من أقوى الأسباب في امتناع رعاياهم عن الحج حينها، ومن حجّ من غيرهم كان ضحية لانفلات الأوضاع الأمنية واستطالة لصوص الأمراء وقُطّاع الطُّرق على المسافرين.

ففي سنة 486هـ/1094م الموالية "لم يحجّ ركب العراق، وحجّ ركب الشام فنهبهم صاحب مكة محمد بن أبي هاشم، ونهبتهم العُربان عشر مرات، وتوصّل مَن سَلِمَ [منهم] في حال عجيبة"؛ حسب الذهبي (ت 748هـ/1348م) في ‘العِـبَـر‘.

وكما أعاقت الصراعات بين الأنظمة السياسية رعاياها عن شهود مواسم الحج؛ كانت الفتن الطائفية السنية/الشيعية بالعراق سببًا إضافيًا في خوف الناس من الإقدام على أداء فريضة الحج، فابن كثير (ت 774هـ/1373م) يذكر -في ‘البداية والنهاية‘- أنه في 441هـ/1050م "اقتتل الروافض (= الشيعة) والسُّنة وجرت ببغداد فتنٌ يطُولُ ذكرها، ولم يحُجّ أحدٌ من أهل العراق"!

ونتيجة لتراخي قبضة العباسيين المركزية على العراق؛ استطاعت قبائل عربية الانفراد بحكم مناطق في شماله وجنوبه، مثل الإمارة المَزْيَدية (388-558هـ/998-1163م) التي كان أشهر أمرائها دُبَيْسُ بن علي الأسدي (ت 474هـ/1082) الذي يتهمه سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) -في ‘مرآة الزمان‘- بموالاة الفاطميين لأنه "كان يرى رأي الباطنية"، وقد بلغت سطوته أنه في 447هـ/1046م "خرَّب أماكن وحرّق غيرها..، ولم يحُج أحد من أهل العراق فيها" بسبب مضايقاته للناس؛ وفقا لابن كثير.

وفي ظل الصراع الأيوبي/الفاطمي ومحاولات أسد الدين شيركوه (ت 564هـ/1169م) وابن أخيه صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ/1193م) السيطرة على مصر لصالح نور الدين زنكي (ت 569هـ/1173م)؛ لم يستطع المصريون أداء الحج لعامين متتاليين، ففي 562هـ/1167م "لم يبع التّجارُ في مكة شيئًا على عادتهم، لأن حاجّ مصر لم يأتوا لاشتغالهم بما حدث عندهم من القتال"؛ حسب عبد القادر الجَزَري (ت 977هـ/1570م) في ‘الدرر الفرائد المنظمة في أخبار الحاج وطريق مكة المعظمة‘.

وهو يقصد هنا المعارك التي وقعت بمصر بين الفاطميين والقوات الزنكية. وفي العام التالي تعطل الحج لاستمرار المعارك بين الجانبين؛ فالذهبي يخبرنا -في ‘تاريخ الإسلام‘- أنه في 563هـ/1170م "لم يحجّ المصريون لما فيه ملكهم من الويل والاشتغال بحرب أسد الدين" شيركوه.

وقد شهدت بلادُ الشام عدةَ أحداث كبرى مثل استيلاء الصليبيين على مناطق الساحل وفلسطين منذ عام 492هـ/1099م، ثم سيطرة الزنكيين والأيوبيين على الشام. وفي عصر الضعف الأيوبي بعد وفاة السلطان صلاح الدين وأخيه الملقب بالعادل (ت 615هـ/1219م)، وفي ظل دخول أبناء العادل في الصراع على السلطة بين سنتيْ 624-627هـ/1228-1231م؛ تعطل حج الشاميين لخوف الناس من الخروج إليه، يقول ابن كثير في حوادث سنة 627هـ/1231م: "ولم يحجّ أحدٌ من أهل الشام في هذه السنة، ولا في التي قبلها، وكذا فيما قبلها أيضًا؛ فهذه ثلاثُ سنين لم يَسِرْ من الشام أحد إلى الحج"!!

وحين لمع نجم المماليك في مصر بعد هزيمتهم للصليبيين في دمياط سنة 647هـ/1250م، وبدأ صراعهم -منذ عام 648هـ/1251م- مع أسيادهم الأيوبيين في الشام بقيادة الناصر الثاني الأيوبي؛ أثّر هذا الصراع المملوكي/الأيوبي على الأوضاع الأمنية بالشام ومصر وخاصة في 648هـ/1251م، فـ"لم يحجّ أحد من الشام ولا مصر في هذه السنة"؛ حسبما يؤكده ابن تَغْرِي بَرْدي في ‘النجوم الزاهرة‘.

وتتجلى الظاهرةُ عينُها في الحرب الأهلية المملوكية بين السلطان المخلوع الناصر محمـد بن قلاوون (ت 741هـ/1341م) والسلطان المظفر بيبرس الجاشنكير (ت 709هـ/1310م)، حين عزم الناصر على العودة من الشام مقرِّ منفاه إلى مصر وبدأ الصراع ضد المظفر في 709هـ/1310م فـ"لم يحجّ أحد من الشام لاضطراب الدولة"؛ وفقا لابن تَغْرِي بَرْدي.

شرعية متجاذبة
حين استتب الأمر للعباسيين في أرجاء العالم الإسلامي بعد قضائهم على دولة الأمويين سنة 132هـ/750م؛ صارت لهم تبعية الحرمين الشريفين تحت حكم وُلَاةٍ ينتمون غالبا إلى أسرة بني العباس نفسها، وحين اختلّ حكمهم المركزي أواخر القرن الثالث الهجري استغل أبناء عمهم العلويون ذلك فتولوا بانتظام -بدءا من مطلع القرن الرابع- إدارة مكة والمدينة دون خروج -في الغالب- على شرعية العباسيين، ثم تعززت إدارتهم أكثر مع سيطرة البويهيين -وهم أصلا شيعية زيدية- على عاصمة الخلافة بغداد سنة 334هـ/945م.

وقد عززت سيطرةُ البويهيين تلك نزعةَ الاستقلال عن بغداد لدى مصر الإخشيدية بقيادة كافور (ت 356هـ/967م) الوصيّ على أميرها أُنوجور الإخشيدي (ت 349هـ/960م)، والذي وصل به الأمر أنْ طمح لمنافسة بغداد في إمرة الحج؛ فابن خلدون (ت 808هـ/1406م) يقول -في تاريخه- إنه "جاء الحاجُّ (= الحُجّاج) إلى مكة سنة اثنتين وأربعين [وثلاثمئة] مع أمير من العراق وأمير من مصر، فوقعت الحرب بينهما على الخطبة لابن بويه ملك العراق، أو ابن الإخشيد صاحب مصر؛ فانهزم المصريون وخُطب لابن بويه، واتصل ورود الحاج من يومئذ".

ومنذ سيطرة الفاطميين -وهم شيعة إسماعيلية- على مصر سنة 358هـ/969م -ثم بلاد الشام في العامين التاليين- بدأ الصراع العلني بين القاهرة وبغداد على الحرمين الشريفين، وذلك باعتبار أن السيادة عليهما هي العنوان الأكبر للشرعية الدينية لـ"خلافة" كل منهما في أعين المسلمين.

ومن هنا حرص العباسيون على دفع الفاطميين بكل قوة لمنع سيطرتهم على هذه البقاع المقدسة، بيد أن الفاطميين كانوا أقوى عسكريًا واقتصاديًا في تلك الحقبة التي ترنّح فيها حكم غرمائهم العباسيين، وأحكم البويهيون -المشتركون معهم في الاتجاه الشيعي العام- سيطرتَهم على مقاليد السلطة الحقيقية في العراق.

وبسبب هذا الصراع -الذي تحوّل إلى مواجهة عسكرية- كثيرا ما بطل الحج؛ وهو ما لاحظه الفاسي (ت 832هـ/1429م) -في ‘شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام‘- بقوله إن العراقيين حجوا في 380هـ/991م رغم أنه "من سنة إحدى وسبعين (= 371هـ/982م) لم يحج أحد من العراق، بسبب الفتن والخُلْفِ (= الاختلاف) بين العراقيين والمصريين"، أي بين العباسيين والفاطميين.

ويبدو أن ذروة الصراع بين الدولتين بلغت قوتها في 401هـ/1011م حين انقطعت أفواج رِكاب الحج وخاصة من محاورها الرئيسية الثلاثة: المشرق والمغرب والشمال. وفي ذلك يقول ابن عذاري المراكشي (ت بعد 712هـ/1312م) -في ‘البيان المُغْرب‘- إنه "لم يحج أحد هذه السنة (= 401هـ/1011م) من الشام ولا العراق ولا خراسان ولا سائر الآفاق، إلا أهل اليمن ونفرٌ يسير ممن كان بمكة مجاورا".

ويذكر ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- أنه في 411هـ/1021م "وقعـ[ـت] حرب بين السلاطين عند واسط [بجنوبي العراق] فاشتدت مجاعتهم..، وبطل الحج في هذه السنة". ويرصد الإمام السيوطي -في ‘حسن المحاضرة‘- سبعة مواسم حج متوالية (بين سنتيْ 417-423هـ/1027-1033م) لم يحضر العراقيون ستة منها بسبب الأوضاع في بلادهم، وفي بعضها "لم يحج أحد من أهل المشرق ولا من أهل الديار المصرية أيضا"!

سعي للاستقلال
وفي سنة 430هـ/1040م تجدد الصراع الشرس بين العباسيين والفاطميين معرقلا أداء الناس لفريضة الحج من كافة بقاع العالم الإسلامي؛ فـ"في سنة ثلاثين وأربعمئة تعطل الحج من الأقاليم بأسرها، فلم يحج أحد لا من مصر ولا من الشام، ولا من العراق ولا من خراسان"؛ وفقا لتعبير السيوطي ذاكرا عدة مواسم حج "تفرد [فيها] بالحج أهلُ مصر" خلال سنوات 430-445هـ/1040-1054م.

وقد عمل حكام الحرمين الهاشميون -الذين يفيدنا المؤرخ ابن الأثير بأنهم حوّلوا ولاءهم السياسي سنة 462هـ/1071م إلى القوة الصاعدة بالمنطقة ممثلة في السلاجقة- على إعداد قوة عسكرية مسلحة لضمان استقرار ملكهم أمام هذه التقلبات السياسية المحتدمة بين الدولتين الكبيرتين، وكثيرا ما استغل هؤلاء لحظات الضعف للبحث عن مكاسبهم الخاصة، وكان لهذا الاستغلال آثاره على منع الحج وإلغائه.

فالجزري يفيدنا بأنه في 512هـ/1118م قام "أمير مكة قاسم بن أبي هاشم الحسني [فـ]ـعَمر مراكب حربية وشحنها بالمقاتلة، وسَيَّرهم إلى عَيْذاب (= ميناء مصري كان على البحر الأحمر) فنهبوا مراكب التجار وقتلوا منهم جماعة، فحضر مَن سَلِم منهم إلى باب الأفضل ابن أبي الجيوش (ت 515هـ/1121م) وزير الديار المصرية، وشكوا [إليه] ما أُخِذ منهم".

لم يقف وزير الفاطميين الأفضل الجمالي أمام هجمات حكام مكة على أهم ميناء مصري، فأصدر قراره الانتقامي سنة 514هـ/1120م الذي "مَنَعَ.. الناسَ أن يحجّوا وقطع الميرة عن الحجاز"؛ وفقا للجزري.

وأمام منْع الوزير الأفضل للمصريين من الحج، الذي يبدو أنه شمل معهم أيضا رِكاب المغاربة والأفارقة وسواهم ممن كان يلحق بهم آنئذ؛ اضطر أشراف مكة إلى الرضوخ لطلبات القاهرة، فـ"كتب الشريف قاسم إلى الأفضل بعوْد ما أخذه من التجار إلى أربابه، ومن قـُـتِل من التجار ردّ له ماله لورثته، وأعاد الأموال في السنة التي بعدها". ويخبرنا ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- أن الحجاج في 557هـ/1162م "وصلوا إلى مكة فلم يدخلـ[ـها] أكثرهم لفتن جرت، وإنما دخلت شرذمة يوم العيد فحجوا، ورجع الأكثرون إلى بلادهم ولم يحجوا"!

وفي مكة المكرمة نفسها؛ كان عقد خمسينيات القرن السابع حافلا بالصراع على إمارتها بين أشرافها وسلطان اليمن المظفر الرسولي (ت 694هـ/1295م)، فانعكس ذلك على مواسم الحج بالتعطيل مرات متعددة.

فمؤرخ مكة عبد الملك العصامي (ت 1111هـ/1700م) يسجل -في ‘سمط النجوم العوالي‘- أن عساكر هذين الطرفين في سنة 653هـ/1255م "تقاتلوا وسط مكة.. وسُفكت الدماء بالحرم الشريف، وامتلأت البلد منهم رُعباً بحيث لم يصلّ في الحرم أحد، ووقع بينهم في أيام الحج وبين أمير الحاج العراقي فتنة درأها الله تعالى بالصلح، فسلِم المسلمون". ثم يضيف أنه في موسم حج 655هـ/1257م "لم يحج أحد من أهل الحجاز ولم تُرفع راية من رايات الملوك لأحد بمكة"!!

سوابق خطيرة
ظهر القرامطة الباطنية (278-398هـ/892-1008م) في الربع الأخير من القرن الثالث الهجري بجنوب العراق، وسرعان ما أسسوا لهم كيانا سياسيا جعلوا عاصمته بلدة هَجَر التي كانت بمنطقة الأحساء شرقيّ السعوديّة اليوم، ودأبوا على مهاجمة المناطق الخاضعة للعباسيين في جنوبي العراق وغيره.

وفي سنة 313هـ/926م أرادوا الاستيلاء على البصرة والأهواز، "فسار [جيشهم] مِن هَجَر يُريد [ركب] الحاجّ" القادم من ناحية الكوفة، واستطاع هزيمة القوات العباسية فـ"دخل المنهزمون بغداد…، وخاف أهل بغداد وانتقل الناسُ إلى الجانب الشرقي [منها]، ولم يحُجّ في هذه السنة من الناس أحد"؛ طبقا لابن الأثير في ‘الكامل‘.

ويحكي الذهبي -في ‘العِـبَـر‘- أنه في 314هـ/927م "لم يحجّ أحد من العراق خوفا من القرامطة، [بل] ونزح أهل مكة عنها خوفا منهم". وأما تقي الدين الفاسي فيؤكد -في ‘شفاء الغرام‘- أن ذلك المنع امتد في السنتين اللاحقتين؛ فـ"لم يحج إلى مكة أحد من العراق.. هذه الثلاث سنين للخوف من القرمطي".

أما في سنة 317هـ/930م؛ فقد تمكن القرامطة -بقيادة أبي طاهر الجنّابي (ت 332هـ/944م)- من مهاجمة مكة المكرمة ذاتها فأحدثوا بها واحدة من أبشع مجازر الحرم في تاريخ الإسلام، حتى إن الذهبي يروي -في ‘العِـبَـر‘- أن جيشهم "قتل بفِجاج مكة وظاهرها زهاء ثلاثين ألفا، وسبى من النساء والصبيان"!!

وعن ذلك يقول المسعودي (ت 346هـ/957م) في ‘التنبيه والإشراف‘: "ومنها أن الحج بطل فلم يُحج في 317هـ/930م لدخول أبي طاهر.. الجنّابي القرمطي.. مكةَ، وكان دخوله إياها يوم الاثنين لسبع خلون من ذي الحجة، ولم يبطل الحجُّ -منذ كان الإسلامُ- غير تلك السنة"!!

ثم استكمل القرامطة جرائمهم في الحرم باقتلاع باب الكعبة والحجر الأسود الذي أخذوه معهم إلى هَجَر، ولم يردوه إليها إلا في 339هـ/950م بتدخل من الفاطميين في تونس، وقد كانت العلاقة المذهبية تجمع الطرفين حينها قبل انفصامها إثر انتقال الدولة الفاطمية إلى مصر؛ يقول ابن خلدون -في تاريخه- إنه في 317هـ/930م "تعطل الحاج بسبب القرامطة، وردّوا الحجر الأسود سنة تسع وثلاثين [وثلاثمئة] بأمر [الخليفة الفاطمي] المنصور العلوي (ت 341هـ/953م) صاحب أفريقية، وخطابه في ذلك لأميرهم أحمد بن أبي سعيد (ت 359هـ/970م)".

وكان لجرائم القرامطة المروعة في الحرم الشريف أكبر الأثر في انقطاع الحج أعواما كثيرة طوال القرن الرابع الهجري؛ فها هو سبط ابن الجوزي يقول: "الظاهر أنه لم يحجّ أحد [من] سنة سبع عشرة وثلاثمئة إلى سنة ستّ وعشرين وثلاثمئة خوفا من القرمطي".

بل إن ابن تَغْرِي بَرْدي يؤكد لنا -في ‘النجوم الزاهرة‘- أن الخطر القرمطي ظل قائما حتى نهاية العقد الرابع من هذا القرن؛ فيذكر أنه في 335هـ "لم يحجّ أحد من العراق خوفا من القرامطة"، وفي 338هـ "تحرّكت القرامطة ولم يحجّ أحد في هذه السنة من العراق".

ويفهم من كلام ابن خلدون أن القرامطة لم يتخلَّوا عن منع الحج مطلقا إلا بوساطة ثانية، ومقابل اتخاذهم خطوة أخرى غير مسبوقة تاريخيا كأفعالهم السابقة، وهي أخذ رسوم على الحجاج ليسمحوا لهم بالعبور.

فقد قال ابن خلدون -في تاريخه- إن نقيب العلويين بالكوفة أبا علي عمر بن يحيى (ت 350هـ/864م) راسل سنة 327هـ/939م زعيمَ القرامطة أبا طاهر الجنّابي، مقترحا عليه "أن يُطلق السبيل للحجاج على مَكْسٍ (= ضريبة) يأخذه منهم، وكان أبو طاهر يعظمه لدينه ويؤمِّله، فأجابه إلى ذلك وأخذ المَكْس من الحجاج، ولم يُعهد مثله في الإسلام"!!

لكننا نجد خطر منعهم الحج يعود مجددا في نهاية القرن؛ ففي 384هـ/995م "رجع الحاجّ إلى بغداد ولم يحجّ أحد من العراق خوفًا من القرامطة"؛ وفقا لابن تَغْرْي بَرْدي في ‘النجوم الزاهرة‘.

أولوية للمقاومة
وكما كان الصراع السياسي الدامي -من حول منطقة الحرمين وعليها- سببا في تعطيل الحج طوال القرون؛ فإن الاجتياحات الأجنبية للمنطقة كان لها من ذلك نصيب وافر. ففي سنة 615هـ/1218م بدأ خروج المغول من بلادهم بمنغوليا وشمال الصين للقضاء على الدولة الخوارزمية المتاخمة لهم في تركستان ووسط آسيا، تمهيدا لاحتلالهم كافة مناطق إيران وهجومهم على مركز الخلافة العباسية بالعراق.

وكان ذلك الخروج سببًا جوهريًا لانقطاع ركب الحاج القادم من مناطق خراسان وما وراءها سنين عددًا؛ ففي 617هـ/1220م بدأت نتائج هذا الغزو في الظهور تباعًا، حتى إنه -كما يقول أبو شامة المقدسي (ت 665هـ/1277م) في ‘الذيل على الروضتين‘- في تلك السنة "لم يحج أحد من العجم بسبب التتار".

وفي موسم الحج التالي سنة 618هـ/1221م "لم يحج أحدٌ من بلاد الأعاجم ولا من همَذان ولا من أصبهان، لخوف الطريق من انتشار الكفرة في البلاد وما يليها"؛ حسبما أورده الجزري. وطوال الأعوام التالية (615–628هـ/1218-1231م) ظل الحج مستعصيًا على ملايين الناس في تلك المناطق؛ بل إن الإمام ابن كثير يحدثنا بأنه "لم يحجّ الناس بعد هذه السنة (= 628هـ/1231م) أيضًا لكثرة الحروب، والخوف من التتار والفرنج"!

ثم كانت سنة 630هـ/1233م وما تلاها هي بداية هجمات التتار المدمرة على العراق، الأمر الذي اضطرت معه السلطات إلى منع العراقيين من الخروج للحج، ولذلك "لم يحُجَّ ركبُ العراق في هذه السنين للاهتمام بأمر التتار"؛ طبقا للذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘.

ويقول الفاسي إنه في 634هـ/1237م "لم يحج.. ركب العراق، ولم يحج أيضا العراقيون خمس سنين متوالية بعد هذه السنة، من سنة خمس وثلاثين إلى سنة أربعين [وستمئة]". وهو ما يؤكده الذهبي بقوله إنه "لم يحجَّ أحدٌ أيضا في [هذا] العام (= 635هـ/1238م) من العراق بسبب كَسرة التتارِ لعسكرِ الخليفَة، وأَخْذِ إربل في السنة الماضية".

لقد كان قرار الخليفة العباسي المستنصر بالله (ت 640هـ/1243م) أمام هجمات المغول هو وضع أولوية جهادية للمقاومة، تستلزم مشاركة الجميع في الدفاع عن العراق والعاصمة بغداد، حتى ولو كان النفير للجهاد على حساب النفرة إلى الحج. ومن هنا فإنه في "سنة أربع وثلاثين وست مئة لم يحج [الركب] العراقي بسبب أن التتر دخل بغداد، فجمع [الخليفة] المستنصر العلماء وسألهم ترك الحج للجهاد، فأفتوه بذلك"؛ حسبما أورده الجزري في ‘الدرر الفرائد‘.

ورغم وفاة المستنصر سنة 640هـ/1243م فقد تواصل تعطيل حج العراقيين حتى عام 650هـ/1252م، وفقا لما يذكره سبط ابن الجوزي المعاصر لتلك الأحداث، وذلك بقوله إنه في 650هـ/1252م "حجَّ النَّاسُ من بغداد بعد عشر سنين بَطَلَ الحج فيها؛ منذ مات المستنصر وإلى هذه السنة"!

وافد جديد
وفي نهاية المطاف أسقط المغول الخلافة العباسية في بدايات عام 656هـ/1258م، فسيطروا على بقية العراق ثم الشام في العام التالي، وحاولوا التمدد غربا فردهم المماليك -القادمون من مصر- على أعقابهم إلى العراق. وفي تلك الأثناء ظل ركب العراق مُعطّلا عن أداء شعيرة الحج بسبب احتلال المغول لقُطرهم مدة عشر سنوات كاملة؛ ففي "سنة ست وست [وستمئة] حجَّ [الركب] العراقي من بغداد، وهي أول حجّة حَجُّوا فيها بعد غلبة التتار على بغداد" سنة 656هـ/1258م؛ كما يذكر الجزري.

ورغم استيلاء المغول على مستقر الخلافة العباسية مؤسسين الدولة الإيلخانية المغولية، واعتناقهم للإسلام منذ بدايات القرن الثامن الهجري؛ فإن صراع أمرائهم على العرش بعد وفاة السلطان أبي سعيد خُدَبَنْدا (أو خَرْبَنْدا) سنة 736هـ/1336م أدى مجددا إلى إبطال تنظيم رحلات الركب العراقي إلى الحج، وهو ما يسجله الفاسي بقوله إنه في "سنة ست وثلاثين وسبعمئة لم يحج الركب العراقي..، لموت السلطان أبي سعيد بن خَرْبَنْدا ملك العراقيين واختلاف الكلمة بعده، ودام انقطاع الحج من العراقيين سنين كثيرة".

ومن رحم الإيلخانيين خرج التيموريون المغول -في وسط آسيا وعاصمتهم سمرقند- بزعامة القائد الأوزبكي تيمورلنك (ت 807هـ/1405م)، ذلك السفاح الأعرج الذي اجتاح الشام سنة 802هـ/1399م والعراق 803هـ/1400م ثم غزا الأناضول 805هـ/1402م؛ فدمّر كثيرا من العمران وارتكب أكبر المذابح في ذلك الوقت.

وكانت أشهر تلك المجازر مذبحة وحريق دمشق؛ فـ"في سنة ثلاث وثمانمئة لم يحُج من الشام أحد على الطريق المعتادة، وسبب ذلك أن تيمورلنك قصد البلاد الشامية في هذه السنة واستولى عليها وأخربها؛ وكان ما حصل من الخراب بدمشق أكثر من غيرها من البلاد الشامية بسبب إحراق التترية لها لمّا استولوا عليها"؛ حسبما يذكره الفاسي.

وفي تلك السنوات نفسها؛ يخبرنا المقريزي (ت 845هـ/1441م) -في كتابه ‘السلوك‘- أنه في 804هـ/1401م "لم يحج في هذه السنة أحد من الشام ولا العراق ولا اليمن"، دون أن يحدد سببا لذلك، فربما كان مرتبطا بحروب وهجمات التيموريين التي استمرت فيما بعدُ، بحيث اضطُر العراقيون إلى إبطال حجهم في بعض السنين، فـ"لم يحج العراقيون من بغداد في سنة إحدى وعشرين وثمانمئة، ولعل سبب ذلك ما قيل من أن الملك شاه رُخ بن تيمورلنك (ت 851هـ/1447م) أخذ [مدينة] تبريز من قرا سنقر [التركماني] والد صاحب بغداد"؛ وفقا للفاسي.

واستمر تهديد شاه رُخ سنوات بعد ذلك؛ ففي 824هـ/1421م "لم يحج من العراق ولا اليمن أحد"؛ كما يقول ابن فهد المكي (ت 885هـ/1480م) في ‘إتحاف الورى بأخبار أم القرى‘. كما تواصل الانقطاع الجزئي في موسم الحج بعد ذلك بقرنين؛ فهذا العصامي المكي يحدثنا عن مشاهداته في موسم حج سنة 1078هـ/1668م، فيقول إنه في 5 ذي الحجة دخل مكةَ "المَحْمَلُ المصري (= وفد الحجاج الرسمي) وكان الحجاج في هذا العام قليلين..، وفي اليوم الثامن دخل الحاج الشامي واليماني والمدني..، وأما أهل العراق وأهل نجد وأهل الحجاز وسائر العرب [فـ]ـلم يحجوا، لما حصل لهم من التعب والجوع والخوف المذهب للهجوع (= النوم)"!!

إتاوات جائرة
لم تقتصر عوامل تعويق الحج -كليا أو جزئيا- على الظروف الأمنية الخطيرة التي ولّدتها صراعات لعبة النفوذ الكبرى بين أصحاب الجيوش والعروش؛ بل كثيرا ما رافقها أو نازعها عامل أمني اجتماعي آخر وإن كان أقل شأنا، ألا وهو الاختلال المزمن في أمن الطريق بظهور العربان الطامعين في أموال الحُجّاج في أوقات تراخي قبضة السلطات في العواصم المركزية.

ولذا كان هؤلاء اللصوص من أبرز عوامل انقطاع الحج، سواء للقادمين من وسط آسيا إلى بغداد للانضمام للركب العراقي، أو الآتين من الأناضول وما حولها للالتحاق للركب الشامي، أو أولئك الوافدين من الأندلس والمغرب والبلاد الأفريقية لمرافقة الركب المصري، بل وحتى القادمين من محور الجنوب حيث اليمن.

ولشدة ما عانى الحجيج من قطع العربان لدروبهم واعتدائهم على أرواحهم وممتلكاتهم؛ كان نجاح الحكومات في مواجهة هؤلاء القُطّاع أحدَ أسباب ترسخ الرضا عنها بين الرعية.

ومن نماذج ذلك ما حكاه الإمام ابن عساكر (ت 571هـ/1175م) -في ‘تاريخ دمشق‘- من أنه في 272هـ/886م أسند أميرُ مصر خُمَارَويه ابن طولون (ت 282هـ/896م) إلى القائد التركي سعد الأعسر (ت 273هـ/887م) ولاية دمشق، فكان من أعظم إنجازاته أنه "فتح طريق الشام للحاج لأن الأعراب كانوا قد تغلبوا على الطريق قبل ولاية سعد، وكان قد بطل الحج من طريق الشام ثلاث سنين، فخرج سعد إلى الأعراب وواقعهم وقتل منهم خلقا عظيما، وفتح الطريق للحاج.. فأحبه أهل دمشق" لأجل ذلك، حتى وصفه الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- بأنه "كان جليلا عادلا محببا إلى أهل دمشق"!

ورغم محاولات السلطات المركزية التي تتبعها منطقة الحجاز -سواء كانت في العراق أو مصر أو غيرهما- القضاءَ بالقوة العسكرية على عبث العربان بركاب الحجيج؛ فإن ذلك لم يردع المعتدين من قطاع الطرق وغيرهم، سواء داخل الجزيرة العربية أو في الطريق قبل الوصول إليها. فابن الجوزي يقول إنه في 361هـ/972م "وردت كتب الحاج بأن بني هلال اعترضوهم فقتلوا خلقا كثيرا فتعطل الحج، ولم يسلم إلا من مضى مع الشريف أبي أحمد الموسوي (ت 400هـ/1010م) على طريق المدينة وتمّ حجهم".

ويفيدنا المقريزي -في ‘اتعاظ الحنفا‘- بأنه في ذي القعدة 415هـ/1025م وصل الركب المغربي كعادته إلى مصر، ثم "خرج حاج المغاربة إلى مكة فلم يصحبهم أحد من أهل مصر؛ وعندما عدَّوْا بركة الجُب [شمال القاهرة] خرج عليهم طائفة من [عساكر] القيصرية والعبيد وكانت بينهم وقعة…، [ثم] عاد مَن خرج مِن حاجّ المغاربة بعدما نُهبوا وجُرحوا وسُلبوا، فلم يحج أحد في هذه السنة من مصر". ويقول ابن الجوزي -في ذكره لأحداث سنة 422هـ/1032م- إنه "لم يحج الناس في هذه السنة من خُراسان والعراق لانقطاع الطرق وزيادة الاضطراب"!

ولم يجد العباسيون وغيرهم أمام هذه المصائب السنوية المتكررة إلا الرضوخ لمطالب قطاع الطريق؛ فكانوا يعطونهم أموالا معلومة على سبيل الإتاوة لتأمين طريق الحجاج بدلا من الاعتداء والسرقة والقتل، إلا أن تأخر أو تلف هذه الأموال -قبل وصولها إلى قادة هؤلاء القُطّاع- كان من الذرائع الكبرى التي بها يمنعون الحج. ومن مشاهير قادة العربان الأُصَيْفِرُ المُنْتَفِقي (ت 410هـ/1020م) أو الأُصَيْفِر/الأصفر الأعرابي، الذي يصفه ابن الأثير المؤرخ بأنه "كان يؤذي الحاج في طريقهم"!

ويذكر هذا المؤرخ أنه في 384هـ/995م "عاد الحُجّاج من الثّعلبية (= بدع خضراء الواقعة اليوم بمنطقة حائل شمالي السعودية) ولم يحُجّ من العراق والشام أحدٌ، وسبب عودهم أن الأُصَيْفِر أمير العرب اعترضهم، وقال: إن الدراهم التي أرسلها السلطان عامَ أولَ كانت نُقْرة (= سبيكة) مَطْليّة (= مغشوشة)، وأُريد العوض، فطالت المخاطبة (= المفاوضات) والمراسلة، وضاق الوقتُ على الحُجّاج فرَجعوا" إلى بلادهم ولم يحجوا!!

وفي السنة الموالية، وحتى يتجنب العراقيون منعهم من الحج؛ اضطر أحد نبلاء الأمراء إلى تحمل ما فرضه عليهم هذا الأعرابي من مكوس جائرة؛ فقد ذكر ابن بن تَغْرْي بَرْدي أنه في سنة 385هـ/996م "حج بالناس أحمد بن محمد بن عبد الله العلوي (ت 389هـ/1000م) من العراق، وبعث بدر بن حَسْنَوَيْهِ الكردي (ت 405هـ/1015م) خمسة آلاف دينار (= اليوم مليون دولار أميركي تقريبا) إلى الأصفر الأعرابي -الذي كان يقطع الطريق على الحاج- عوضاً عما كان يأخذه من الحاج، وجعل ذلك رسماً عليه (= الكردي) في كل سنة من ماله؛ رحمه الله"!!

لصوصية "نبيلة"
ولئن كان إيذاء الحجاج هو العادة المألوفة لهذا الأمير الأعرابي؛ فقد سجل له التاريخ موقفا "نبيلا" مع الحجاج العراقيين في أحد المواسم بعد أن وجدت عاطفته الدينية ما يستثيرها.

فقد روى ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- أنه في 394هـ/1004م "كان في جملة الحاج [قارئان شابان هما] أبو الحسين بن الرفاء وأبو عبد الله بن الزجاجي، وكانا من أحسن الناس قراءة [للقرآن]؛ فاعترض [طريقَ] الحاجِّ الأُصَيْفِرُ المُنْتَفِقي وحاصرهم.. وعوَّل على نهبهم، فقالوا: من يمضي إليه ويقرر معه شيئا نعطيه [إياه]؟ فندبوا (= اختاروا) أبا الحسين [بن] الرفاء وأبا عبد الله الزجاجي، فدخلا إليه وقرآ [القرآن] بين يديه؛ فقال [لهما]: كيف عيشكما ببغداد؟ فقالا: نعم العيش..! فقال: هل وهبوا لكما ألف ألف دينار في صُرَّة؟ فقالا: لا، ولا ألف دينار في موضع [واحد]! فقال: قد وهبتُ لكما الحاجَّ وأموالَهم، [فـ]ـذلك يزيد على ألف ألف دينار (= اليوم 200 مليون دولار أميركي تقريبا)؛ فشكروه وانصرفوا، ووَفَى للحاج بذلك"!!

وكان زعيم العربان في بادية شمال الجزيرة العربية ومناطق فلسطين والأردن مفرج بن دغفل بن الجراح الطائي (ت 404هـ/1014م) من أشهر المتمردين في أواخر القرن الرابع الهجري؛ فكان يقطع الطرق ويساوم الجميع على المال وإلا فالقتل بلا رحمة. فمما يرويه ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- أنه في 379هـ/990م "ورد الخبر في المحرّم بأن ابن الجراح الطائي خرج على الحاج بين سُمَيراء وفَيْد (تقعان اليوم في حائل السعودية) ونازلَهم، ثم صالحهم على ثلاثمئة ألف درهم وشيء من الثياب المصرية والأمتعة اليمنية، فأخذه وانصرف"!!

وقد تكررت اعتداءات الطائي هذا الذي أصبح مجرد ذكر اسمه لقوافل الحجيج القادمة من العرق والشام ومصر يمثل رُعبًا لهم لفترة طويلة؛ ففي سنة 397هـ/1007م "هبّت على الحُجّاج ريحٌ سوداء بالثعلبية أظلمت لها الأرضُ ولم يرَ الناسُ بعضهم بعضا، وأصابهم عطشٌ شديد، ومنعهم ابن الجراح الطائي من المسير ليأخذ منهم مالاً، فضاق الوقتُ عليهم فعادوا ولم يحجوا"؛ وفقا لابن الأثير.

وفي سنة 409هـ/1019م خرج حجيج العراق "فاعترضتهم العرب (= الأعراب) فيما بين القصر والحاجر (= اليوم بلدة البعائث بحائل السعودية)، والتمسوا منهم زيادة على رسومهم، فرجعوا من القصر وبطل الحج في هذه السنة"؛ حسبما يذكره الفاسي في ‘شفاء الغرام‘. وينقل الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- أنه في 424هـ/1034م "لم يحجّ العراقيّون ولا المصريّون أيضًا خوفًا من [أعراب] البادية، وحج أهلُ البصرة -مع من يخفرهم (= يحرسهم)- فغدروا بهم ونهبوهم"!!

وهكذا ظل هجوم بعض أمراء العرب على قوافل الحجيج أكبر هاجس -منذ بداية العصور الإسلامية الوسيطة وحتى أوائل العصر الحديث- يؤرق الحجيج ويقض مضاجعهم، وكان عاملا أساسيًا في إبطال الشعيرة لركاب حجاجِ بلدانٍ عديدة.

وكان من اللافت اشتراك عدد من أمراء مدن الحجاز -مثل ينبع ومكة- في الاعتداء على الحجيج ونهب قوافلهم، وخاصة في لحظات ضعف السلطات المركزية في بغداد أو دمشق أو القاهرة؛ فقد سبق ذكرُنا لما وقع في أوْج الخلافات الفاطمية/العباسية من انتهاب أمير مكّة محمد بن أبي هاشم لركب الحج الشامي سنة 486هـ/1093م.

وحسب ما يورده الجزري فإن اعتراض أمراء العرب لقوافل الحجيج تكرر سنة 631هـ/1234م، حيث "رجع حج العراق وأميرهم شمس الدين أصلان تكين (ت بعد 638هـ/1241م) من منزلة لِينة -بكسر اللام- لعدم الماء، وقاسَوْا مشقة عظيمة؛ فإن العرب الأجاودة طَمُّوا (= غَطَّوْا) الآبار.. في طريق الحجاز، وتحاوروا هم وإياهم على البذل (= دفع الإتاوة) إلى أن ضاق الوقت وعادوا" إلى العراق. وفي ظل ضعف قبضة سلاطين مصر المماليك على الحجاز؛ يذكر ابن شاهين المَلَطي (ت 920هـ/1515م) -في ‘نيل الأمل‘- أنه انقضت سنة 828هـ/1425م فـ"لم يحجّ من العراق أحد، وأخبِروا أن سبب تعويقهم [كان] خوفا على أنفسهم من مُقبل أمير الينبع، فإنه كان تحوّل إلى طريق الحاجّ لفساد يفعله"!

كروب الدروب
ظلت ندرة المياه في طريق الحج من أبرز أسباب إلغاء أدائه طوال قرون تفاقمت في معظمها أزمات العطش، ولا سيما في صحاري جزيرة العرب. وفي خبر ذي دلالة كبيرة هنا نظرا لوقوعه في أوْج ازدهار وقوة الدولة العباسية؛ يروي ابن سعد (ت 230هـ/845م) -في ‘الطبقات الكبرى‘- أنه في 168هــ/785م "خرج [الخليفة العباسي] المهدي (ت 169هـ/786م) يريدُ الحج… فكان الماء في الطريق قليلا، فخشي المهدي على من معه العطش، فرجع من الطريق ولم يحُجّ تلك السنة"!!

ويحدث هذا مع أن المؤرخ ابن الأثير يخبرنا بأنه كان للخلفاء آنذاك موظف يسمى "متولي المنازل"، ويوضح الفاسي طبيعة وظيفته بقوله إنه "كانت الخلفاء يُبنى لهم -في كل منزلة ينزلونها بطريق مكة- دار، ويُعدّ لهم فيها سائر ما يُحتاج إليه من الستور والفُرُش والأواني وغير ذلك"، فكانت مسؤولية "متولي المنازل" هي الإشراف على هذه الاستراحات، وحمايتها فـ"كان لا يدخل المنازلَ أحدٌ من الناس" العاديين!!

وعن أثر ندرة المياه على إكمال الحجاج العاديين رحلتهم المقدسة؛ يفيدنا الذهبي -في ‘العِـبـَر‘- بأنه في 363هـ/974م "لم يحجّ ركب العراق لأنهم وصلوا إلى سُمَيراء، فرأوا هلال ذي الحجة وعلموا أن لا ماء في الطريق فعدلوا إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم" ولم يحجوا.

ويذكر الذهبي أيضا -في ‘تاريخ الإسلام‘- أنه في 406هـ/1016م "وردَ الخبر إلى بغداد -بعد تأخّره- بهلاك الكثير من الحاجّ، وكانوا عشرين ألفا فسَلِم منهم ستة آلاف، وأن الأمر اشتد بهم والعطش حتى شربوا أبوال الجِمال، ولم يحجّ أحد في هذه السنة". وفي سنة 504هـ/1110م "وصل إلى بغداد حاجّ خراسان، ثم رحلوا إلى الكوفة فقيل لهم: إن الطريق ليس بها ماء، فعادوا ولم يحج منهم أحد"؛ طبقا لابن الجوزي في ‘المنتظم‘.

وفي بعض السنين اجتمع على الحجاج الموتُ عطشاً والقتلُ معًا؛ فالإمام الذهبي يعرض -في ‘تاريخ الإسلام‘- لأخبار موسم حج سنة 357هـ/968م قائلا: "كان الحجّ في العام صعبًا إلى الغاية لِما لَحِقهم من العطش والقتل، مات من حُجّاج خراسان فوق الخمسة آلاف.. بالعطش، فلما حصلوا بمكة خرج عليهم الطلحيّون والبكريّون [من القرشيين] فوضعوا في الحجيج السيف، وأخذوا الرَّكْبَ بما حوى، ولم يحجّ من مصر ولا الشام أحد! وكان حُجّاج المغرب خلقًا فرجع معهم خلق من التُّجّار فأُخِذوا، فيُقال: إنّه أُخِذ لتاجرٍ فيها متاع بنحو مئتيْ ألف دينار (= اليوم 40 مليون دولار أميركي تقريبا)؛ فإنّا لله وإنا إليه راجعون"!!

لقد ظلت ظروف درب الحجيج شرقًا وغربًا مأساة بالغة تتناقلها الأجيال والركبان؛ فها هو الجزري يتحدث -في ‘الدرر الفرائد المنظّمة في أخبار الحاج وطريق مكة المعظّمة‘- عن معاناة ركب الحج المصري والركاب الأفريقية اللاحقة به سنة 966هـ/1559م، فيقول إنهم حين خرجوا من القاهرة "هبّت عليهم [رِيحٌ] سَمومٌ حارة، وكان الماء بالأبيار قليلاً ومتغيرًا، فأوجب [ذلك] موتَ جماعات من الفقراء والمُشاة، ومن أثّر فيه ذلك"!

ومن أثر تلك المعاناة أنه كثيرا ما ضُرب المَثل بقذارة مياه "درب الحج" التي لا يجد الحجاج مندوحة عن شربها؛ فها هو أبو إسحق الوطواط (ت 718هـ/1319م) يورد -في ‘غرر الخصائص الواضحة‘- قول أحد الشعراء "يَذمّ صديقا له نمّاماً"، مشبها حاجته إلى صحبته -رغم صفاته الذميمة- بماء طريق الحج:
وصاحبِ سُوءٍ وجْهُه ليَ أوْجُـــــهٌ ** وفي فمه طبلٌ بسِرّيَ يــــضربُ
كماء بـ‘درب الحاج‘ في كل مَنْهَلٍ ** يُــذَمُّ على ما كان منه ويُــشربُ!

وإننا لنرى استمرار تلك المأساة في أزمنة لاحقة ووصف الأدباء لها، حتى إن الرحالة المغربي أبا سالم العياشي (ت 1090هـ/1679م) كان مع ركب حجاج المغاربة المرافق للركب المصري سنة 1064هـ/1654م، فصادفوا يوما معتدلا وماء عذبًا في أثناء سيرهم بمنطقة سيناء، ولم يفوت العياشي تسجيل انطباعه عن ذلك فكتب متندرا في رحلته ‘ماء الموائد‘: "وكان الهواء باردًا، والماء عذبًا، والناس ماشون على مَهَل، منبسطون غاية البسط، وكنتُ أقول لأصحابنا ممازحًا: مَن عدّ هذا اليوم من أيام الدرب فقد ظلمه؛ لأنه خالفَ الدربَ في سائر أوصافه، فإن طريق الدرب معروفة بالماء القبيح والحرّ والخوف، وهذا اليوم بخلاف ذلك"!

ضرورات معطِّلة
كانت مُنغّصاتُ الطريق -من اشتداد عطشٍ واضطرابِ أمنٍ وطولِ مسافاتٍ وزمنٍ- وأثرها على الحجاج القادمين من فجاج الأرض، وخاصة من أقاصي العالم الإسلامي شرقًا وغربًا حيث يسود المذهب الحنفي في الأولى والمالكي في الثانية؛ من أهم الأسباب التي جعلت الفقهاء -وخاصة من هذين المذهبين- يتطرقون لمسألة "أمن الطريق" وضرورته لأداء الفريضة.

فقد رأى الحنفية -على الصحيح من أقوالهم حسب الإمام الكاساني (ت 587هـ/1191م) في ‘بدائع الصنائع‘- أن "أمن الطريق من شرائط الوجوب.. [فهو] بمنزلة الزاد والرّاحلة..، لأن الله تعالى شرط الاستطاعة [لوجوب الحج]، ولا استطاعة بدون أمن الطريق كما لا استطاعة بدون الزّاد والرّاحلة".

وأما أهل المغرب والأندلس فإن بُعد الطريق ووعورته في البر والبحر المتوسط، وكثرة حوادث فقدان الحجيج وموتهم في الطريق والصحاري، إما عطشا أو جوعًا وإما لوجود قُطاع الطرق؛ دفع علماءهم من المالكية إلى إصدار فتاوى عدة تتناول مسألة "إسقاط الحج" عن المغاربة.

ومن ذلك فتوى شهيرة للشيخ زروق الفاسي المالكي (ت 899هـ/1495م) نقلها الحطاب الرُّعيني (ت 954هـ/1548م) في ‘مواهب الجليل‘، ويقول فيها: "إن أمن الطريق الذي هو من أحكام الاستطاعة مفقود..، [ونقل] عن المازِري (ت 536هـ/1141م) أن الشيخ أبا الوليد (ابن رشد الجَدّ ت 520هـ/1126م) أفتى بسقوط الحج عن أهل الأندلس، وأن الطُّرطوشي (ت 520هـ/1126م) أفتى بأنه حرام على أهل المغرب..، [وبعضهم] قال: لقيتُ في الطريق ما اعتقدتُ أن الحجّ معه ساقطٌ عن أهل المغرب، بل حرام"!!

ولعل رحلات المغاربة والأندلسيين -التي بين أيدينا اليوم- تبين جسامة ما كانوا يلقونه في المسالك والممالك أثناء رحلتهم إلى الحرمين؛ فقد دأبوا على الالتقاء في مدينة قوص بصعيد مصر باعتبارها -كما يقول ابن جبير الأندلسي (ت 588هـ/1193م) في رحلته- هي "ملتقى الحجاج المغاربة والمصريين والإسكندريين ومن يتصل بهم، ومنها يفوّزون (= يدخلون المَفازة) بصحراء عَيْذاب، وإليها انقلابهم في صَدَرِهم (= عودتهم) من الحج".

ويضيف هذا الرحالة الفقيه أنه "ربما كان من الحجاج من يتعسف تلك المجهلَة (= الصحراء) على قدميه فيضلّ ويهلك عطشا، والذي يَسْلَم منهم يصل إلى عَيْذاب كأنه مُنْشَرٌ مِن كَفَن، شاهدنا منهم مدة مقامنا أقواما قد وصلوا على هذه الصفة"!

ولقد ظلت مسألة "أمن الطريق" تؤرِّق الحجيج والفقهاء على السواء حتى مطلع القرن العشرين، فكانت تتمّ استثارتها بين الحين والآخر؛ فبسبب قيام الحرب العالمية الأولى (1914-1918م)، وظهور أمراض وطواعين وما قد يلحقه ذلك من ضرر بالحُجاج؛ ورد سؤال من وزارة الداخلية المصرية -بتاريخ 29/06/1915- إلى مفتي مصر آنذاك الشيخ محمـد بخيت المطيعي (ت 1354هـ/1935م)، جاء فيه: "نحيط علم فضيلتكم أنه لما قامت الحرب الأوروبية في العام الماضي صار السفر إلى الحجاز صعبًا وطريقه غير مأمون للأسباب الآتية"، وذكرت الرسالة تلك الصعوبات مثل عدم توفر البواخر، وعدم قدرة الحكومة على توفير الرعاية الصحية والمالية وغيرها.

فكان جواب الشيخ المطيعي -وفقا للفتوى المسجلة بدار الإفتاء المصرية بـ"الرقم المسلسل: 276" والمنشورة على موقعها الإلكتروني بعنوان: "الحج مع وجود خطر على الحجاج"- أنه "يجوز للحكومة والحالة هذه إعطاء النصائح الكافية للحجاج المصريين بتأجيل حجهم للعام المقبل مثلًا، حتى تزول الأخطار ويتوفر أمن الطريق الذي لا بد منه في وجوب الحج"، وقد اتّكأ المطيعي في فتواه تلك على ما سبق لنا ذكره من اشتراط مذهب الحنفية توفر "أمن الطريق وقت خروج أهل البلد" إلى الحج.

المصدر : الجزيرة