Wednesday 5 August 2020

مقامات الحريري

من البصرة
قصيدة (( ايا من يدعي الفهم))

قصيدة أيا من يدعي الفهم من المقامات المعروفة(( بمقامات الحريري ))لمؤلفها

(( محمد الحريري البصري))

 ، وهي تتكون من خمسون مقامة على غرار مقامات بديع الزمان الهمذاني الذي ابتكر هذا الفن ، وهو نوع من القص الأدبي يلتزم مؤلفه بالصنعة فيعتمد على السجع والبديع ، وهذه القصيدة من المقامة السامية . وقد انتشرت تلك القصيدة بعد أن أنشدها المنشدون  ، وكلماتها تقول :

أيا مَن يدّعي الفَـهْـمْ ... إلى كمْ يا أخا الوَهْـمْ
 تُعبّي الـذّنْـبَ والـذمّ ... وتُخْطي الخَطأ الجَـمّ أمَا بانَ لـكَ الـعـيْبْ ... أمَا أنْـذرَكَ الـشّـيبْ وما في نُصحِـهِ ريْبْ ... ولا سمْعُكَ قـدْ صـمّ أمَا نادَى بكَ الـمـوتْ ... أمَا أسْمَعَك الصّـوْتْ أما تخشَى من الفَـوْتْ ... فتَحْـتـاطَ وتـهـتـمْ فكمْ تسدَرُ في السهْـوْ ... وتختالُ من الـزهْـوْ وتنْصَبُّ إلى الـلّـهـوْ ... كأنّ الموتَ مـا عَـمّ وحَـتّـام تَـجـافـيكْ ... وإبْـطـاءُ تـلافـيكْ طِباعاً جمْعـتْ فـيكْ ... عُيوباً شمْلُها انْـضَـمّ إذا أسخَطْـتَ مـوْلاكْ ... فَما تقْلَـقُ مـنْ ذاكْ وإنْ أخفَقَ مسـعـاكْ ... تلظّيتَ مـنَ الـهـمّ وإنْ لاحَ لكَ النّـقـشْ ... منَ الأصفَرِ تهـتَـشّ وإن مرّ بك النّـعـشْ ... تغامَـمْـتَ ولا غـمّ تُعاصي النّاصِحَ البَـرّ ... وتعْـتـاصُ وتَـزْوَرّ وتنْقـادُ لـمَـنْ غَـرّ ... ومنْ مانَ ومـنْ نَـمّ وتسعى في هَوى النّفسْ ... وتحْتالُ على الفَـلْـسْ وتنسَى ظُلمةَ الرّمـسْ ... ولا تَـذكُـرُ مـا ثَـمّ ولوْ لاحظَـكَ الـحـظّ ... لما طاحَ بكَ اللّـحْـظْ ولا كُنتَ إذا الـوَعـظْ ... جَلا الأحزانَ تغْـتَـمّ ستُذْري الدّمَ لا الدّمْـعْ ... إذا عايَنْتَ لا جـمْـعْ يَقي في عَرصَةِ الجمعْ ... ولا خـالَ ولا عــمّ كأني بـكَ تـنـحـطّ ... إلى اللحْدِ وتـنْـغـطّ وقد أسلمَك الـرّهـطْ ... إلى أضيَقَ مـنْ سـمّ هُناك الجسمُ مـمـدودْ ... ليستـأكِـلَـهُ الـدّودْ إلى أن ينخَرَ الـعـودْ ... ويُمسي العظمُ قـد رمّ ومنْ بـعْـدُ فـلا بُـدّ ... منَ العرْضِ إذا اعتُـدّ صِراطٌ جَـسْـرُهُ مُـدّ ... على النارِ لـمَـنْ أمّ فكمْ من مُرشـدٍ ضـلّ ... ومـنْ ذي عِـزةٍ ذَلّ وكم مـن عـالِـمٍ زلّ ... وقال الخطْبُ قد طـمّ فبادِرْ أيّها الـغُـمْـرْ ... لِما يحْلو بـهِ الـمُـرّ فقد كادَ يهي العُـمـرْ ... وما أقلعْـتَ عـن ذمّ ولا ترْكَنْ إلى الدهـرْ ... وإنْ لانَ وإن ســرّ فتُلْفى كمـنْ اغـتَـرّ ... بأفعى تنفُـثُ الـسـمّ وخفّضْ منْ تـراقـيكْ ... فإنّ المـوتَ لاقِـيكْ وسارٍ فـي تـراقـيكْ ... وما ينـكُـلُ إنْ هـمّ وجانِبْ صعَرَ الـخـدّ ... إذا ساعـدَكَ الـجـدّ وزُمّ اللـفْـظَ إنْ نـدّ ... فَما أسـعَـدَ مَـنْ زمّ ونفِّسْ عن أخي البـثّ ... وصـدّقْـهُ إذا نــثّ ورُمّ العـمَـلَ الـرثّ ... فقد أفـلـحَ مَـنْ رمّ ورِشْ مَن ريشُهُ انحصّ ... بما عمّ ومـا خـصّ ولا تأسَ على النّقـصْ ... ولا تحرِصْ على اللَّمّ وعادِ الخُلُـقَ الـرّذْلْ ... وعوّدْ كفّـكَ الـبـذْلْ ولا تستمِـعِ الـعـذلْ ... ونزّهْها عنِ الـضـمّ وزوّدْ نفسَكَ الـخـيرْ ... ودعْ ما يُعقِبُ الضّـيرْ وهيّئ مركبَ الـسّـيرْ ... وخَفْ منْ لُـجّةِ الـيمّ بِذا أُوصـيتُ يا صـاحْ ... وقد بُحتُ كمَـن بـاحْ فطوبى لـفـتًـى راحْ ... بآدابـــيَ يأتَـــم

 وقد قال الحريري في ذات المقامة أيضا محدثاً شيخه :

 إلى كمْ يا أبا زيدْ ... أفانينُكَ في الكيدْ ليَنحاشَ لكَ الصيدْ ... ولا تعْبا بمَنْ ذمّ فأجابَ من غيرِ استِحْياء. ولا ارْتِياء.

وقال: تبصّـرْ ودعِ الـلـوْمْ ... وقُلْ لي هل تَرى اليومْ فتًى لا يقمُـرُ الـقـومْ ... متى ما دَسـتُـهُ تم.

من هو كاتبها محمد البصري ؟
الجواب /

أبو محمد محمد بن القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري الحرامي البصري أديب من أدباء البصرة (446هـ/1054م - 6 رجب 516 هـ/11 سبتمبر 1112م) من أكبر أدباء العرب ،

وصاحب مقامات الحريري.

 لم يبلغ كتاب من كتب الأدب في العربية ما بلغته مقامات الحريري من بُعد الصيت واستطارة الشهرة، ولم يكد الحريري ينتهي من إنشائها حتى أقبل الوراقون في بغداد على كتابتها،

وتسابق العلماء على قراءتها عليه، وذكروا أنه وقَّع بخطه في عدة شهور من سنة (514 هـ - 1110م) على سبعمائة نسخة،

وبلغ من شهرتها في حياة الحريري أن أقبل من الأندلس فريق من علمائها لقراءة المقامات عليه،

 ثم عادوا إلى بلادهم حيث تلقاها عنهم العلماء والأدباء، وتناولوها رواية وحفظًا ومدارسة وشرحًا.

: مقامات الحريري
المقامات فن من فنون الكتابة العربية ابتكره بديع الزمان الهمذاني، وهو نوع من القصص القصيرة تحفل بالحركة التمثيلية، ويدور الحوار فيها بين شخصين، ويلتزم مؤلفها بالصنعة الأدبية التي تعتمد على السجع والبديع.

يحكي الحريري عن سبب إنشائه المقامات التي بدأ في كتابتها في سنة 495 هـ/1101 م وانتهى منها عام 504 هـ/1110 م، فيقول:

«إن أبا زيد السروجي كان من أهل البصرة، وكان شيخًا شحاذاً أديباً بليغاً فصيحاً، ورد البصرة، فوقف في مسجد بني حرام ، فسلّم، ثم سأل، وكان المسجد غاصاً بالفضلاء، فأعجبتهم فصاحته وحسن كلامه، وذكر أسر الروم ولده، فاجتمع عندي عشية جماعة، فحكيت ما شاهدت من ذلك السائل، وما سمعت من ظرفه، فحكى كل واحد عنه نحو ما حكيت، فأنشأت المقامة الحرامية، ثم بنيت عليها سائر المقامات التي تبلغ خمسين مقامة».

البطل والراوي

وقد نسب الحريري رواية هذه المقامات إلى الحارث بن همام، فهو الذي يروي أخبارها، ويقول ابن خلكان:

 إنه قصد بهذا الاسم نفسهُ، ونظر في ذلك إلى قول النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) :

«"كلكم حارث وكلكم همام"»

 فالحارث: الكاسب، والهمام كثير الاهتمام بأموره، وما من شخص إلا وهو حارث وهمام ،

 وقول النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) أيضاً :

 «" أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة"»

 ، أما بطل هذه المقامات فهو أبو زيد السروجي،

 وهو متسول يعتمد على حسن الكلام وسحر البيان في جذب اهتمام الناس، واستلاب عواطفهم، واستمالة عقولهم ليمنحوه صدقاتهم. وتختلف الروايات في حقيقة أبي زيد السروجي، فمن قائل إنه اسم خيالي وضعه الحريري صاحب المقامات، واستوحاه من صورة الشحاذ الذي لقيه في مسجد بني حرام بالبصرة، في حين يذهب البعض أنه شخصية حقيقية،

 والأقرب إلى الصواب أن أبا زيد السروجي شخصية نسجها خيال الحريري، ليحوك من حولها حيل أديب متسول، مثلما اتخذ بديع الزمان الهمذاني من أبي الفتح الإسكندري بطلاً لمقاماته.

 وتبدأ المقامات بلقاء بين الحارث بن همام وأبي زيد السروجي في صنعاء، وهما في ريعان الشباب وربيع العمر، حيث لقي الحارث أبا زيد خطيبًا واعظًا في جمع من الناس، ثم تبعه فعرفه مخادعًا كذابًا، وعلى هذا اللقاء بنى الحريري المقامة الأولى، وأطلق عليها

"المقامة الصنعانية"

، ثم أخذ الحارث يجوب البلاد ويواصل الأسفار ليلقى أبا زيد في أماكن مختلفة، في ساحات القضاء، ومجالس الولاة، وأندية الأدباء، ثم يلتقيان في مسجد البصرة، وقد تقدم بهما العمر، وهدَّ جسدهما طول الزمن، فإذا أبو زيد يقف في حشد من الناس يعلن توبته، ويندم على ما قدّم من ذنوب وآثام، ثم يعزم على العودة إلى بلده "سروج" وينصرف إلى العبادة والصلاة، أما الحارث بن همام فيتوقف عن السفر والترحال، ويجنح إلى الراحة، ويكون هذا هو آخر لقاء بينهما، وبه تنتهي المقامة الخمسون آخر المقامات.

بين القص والصنعة البيانية

تجمع المقامات التي أنشأها الحريري بين متعة القص والحكي وتحقيق الغاية البيانية البلاغية، ويذكر في مقدمة عمله مقصده بقوله:

 «"أنشأت خمسين مقامة تحتوي على جد القول وهزله، ورقيق اللفظ وجزله، وغرر البيان ودرره، وملح الأدب ونوادره، إلى ما وشحتها به من الآيات، ومحاسن الكنايات ووضعته فيها من الأمثال العربية واللطائف الأدبية، والأحاجي النحوية والفتاوى اللغوية، والرسائل المبتكرة، والمواعظ المبكية، والأضاحيك الملهية"»

غير أن الصنعة البيانية قد غلبت على القص والحكاية، وزاد من افتتان الناس بها البراعة الفائقة والقدرة الفذة التي كتب بها الحريري هذا العمل، وكأن المعجم العربي قد نُثِر كله بين يديه يختار منه ما يشاء في صنعة عجيبة وإحكام دقيق. ولم يكتف الحريري بالسجع والمحسنات البديعية في مقاماته، وإنما أضاف إليها أمورًا أخرى غاية في التعقيد، لكنه تجاوز هذا التعقيد في براعة فائقة، فأورد في المقامة السادسة التي بعنوان
 "المراغية" رسالة بديعة تتوالى كلماتها مرة منقوطة ومرة غير منقوطة، منها قوله: «"العطاء ينجي، والمطال يشجي، والدعاء يقي، والمدح ينقي، والحر يجزي..."» ، ويسمى المقامة السادسة والعشرين باسم الرقطاء ، لأنها تحتوي على رسالة ، تتوالى حروف كلماتها بالتبادل بين النقط وعدمه ، مثل قوله: «"ونائل يديه فاض، وشح قلبه غاض، وخلف سخائه يحتلب...".» ، وفي المقامة الثامنة يخطب أبو زيد السروجي خطبة كل كلماتها غير منقوطة، بدأها بقوله: «"الحمد لله الممدوح الأسماء، المحمود الآلاء، الواسع العطاء، المدعو لحسم اللأواء، مالك الأمم، ومصور الرمم، وأهل السماح والكرم ومهلك عاد وإرم..."».

عناية العلماء بمقامات الحريري

حظيت مقامات الحريري منذ أن ألفها الحريري باهتمام العلماء فأقبلوا عليها يشرحونها، لما زخرت به من الألفاظ والأمثال والأحاجي والألغاز، والمسائل النحوية والبلاغية، وقد أحصى "حاجي خليفة" صاحب كتاب "كشف الظنون" أكثر من خمسة وثلاثين شارحًا، منهم:

محمد بن علي بن عبد الله الحلي.
محمد بن محمد المكي الصقلي المعروف بابن ظفر.
أبو المظفر محمد بن أسعد المعروف بابن حكيم.
عبد الله بن الحسين العكبري.
أحمد بن عبد المؤمن من موسى الشريشي.
وقد انتبه المستشرقون منذ وقت مبكر إلى أهمية المقامات فأولوها عنايتهم وترجموها إلى لغاتهم، فقام المستشرق الهولندي "جوليوس" في سنة (1067 هـ - 1656م) بترجمة المقامة الأولى إلى اللغة اللاتينية، ثم نقل المستشرق الهولندي نفسه ست مقامات بين سنتي (1144 هـ - 1731 م) و (1153 هـ - 1740م) إلى اللاتينية.

وفي فرنسا قام المستشرق "كوسان دي برسفال" بنشر المتن العربي الكامل سنة (1337 هـ - 1918 م)، كما قام الأستاذ "دي ساسي" بجمع مخطوطات المقامات وشروحها، وعمل منها شرحًا عربيًا، وطبع المتن والشرح في باريس سنة (1238 هـ - 1822م). كما ترجمت المقامات إلى الألمانية، وقام بالترجمة المستشرق "ركرت"، وتمتعت هذه الترجمة بشهرة واسعة في عالم الاستشراق، وتُرجمت إلى الإنجليزية سنة (1284 هـ - 1867م)

. وكانت مقامات الحريري من أوائل ما طُبع من المكتبة العربية، وتوالت طبعاتها في باريس ولندن وليدن ولكنو ودلهي بالهند، والقاهرة وبيروت.